جرائم أبو غريب... محكمة أميركية تنظر للمرة الأولى في الانتهاكات

جرائم أبو غريب... محكمة أميركية تنظر للمرة الأولى في الانتهاكات

19 ابريل 2024
معتقلون في سجن أبو غريب ينتظرون الإفراج عنهم عام 2006 (واثق خذيعي/ Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- بدأت هيئة محلفين في فيرجينيا النظر في قضية ضد شركة CACI، متهمة بالتورط في تعذيب سجناء أبو غريب، مما يمثل سابقة في القضاء الأمريكي لضحايا تعذيب غير أمريكيين.
- القضية تبرز الدور المثير للجدل للشركات الخاصة في الحروب وتحديات الحصول على العدالة، حيث استخدمت CACI حججًا مثل الحصانة القانونية لإسقاط الدعوى على مدى 16 عامًا.
- تأتي المحاكمة في ظل نقاش متزايد حول مسؤولية الحكومة الأمريكية والشركات المتعاقدة عن انتهاكات حقوق الإنسان، مع تأكيد منظمات مثل "هيومان رايتس واتش" على أهمية القضية لتحقيق العدالة للضحايا.

مرّ 20 عاماً على نشر صور وفضح عمليات تعذيب في سجن أبو غريب في وقت بدأت هيئة محلفين بولاية فيرجينا الأميركية النظر في قضية رفعها ثلاثة عراقيين بسبب تعذيبهم، الأمر الذي يعد سابقة.

بدأت هيئة محلفين بولاية فيرجينا الأميركية النظر في قضية فيدرالية رفعها ثلاثة عراقيين قبل 16 عاماً ضد شركة مركز التحليل الموحد CACI (سي. إي. سي. آي)، وهي شركة أميركية متعددة الجنسيات للخدمات المهنية وتكنولوجيا المعلومات، تقدم خدماتها للعديد من فروع الحكومة الفيدرالية الأميركية بما في ذلك الدفاع، والأمن الداخلي، والاستخبارات، والرعاية الصحية، متهمين عاملين فيها بتعذيبهم في سجن أبو غريب. وهذه هي المرة الأولى منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول واجتياح أفغانستان والعراق التي يتمكن فيها ضحايا تعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان غير أميركيين من الاستعانة بمحكمة أميركية للبت في قضيتهم، بحسب "مركز الحقوق الدستوري" الأميركي الذي تولى رفع القضية. 
ويصادف بدء موعد المحاكمة مرور عشرين عاماً على نشر الصور وفضح عمليات التعذيب في سجن أبو غريب نهاية إبريل/ نيسان عام 2004  على محطة "سي بي إس" الأميركية. كما يأتي بدء المحاكمة بعد 16 عاماً من رفع مركز الحقوق الدستورية، بالتعاون مع جهات أخرى، القضية باسم الناجين الثلاثة وهم سهيل الشمري، وصلاح العجيلي، وأسعد الزوبعي.  وكانوا قد اعتقلوا وزج بهم في سجن أبو غريب وتم تعذيبهم والإفراج عنهم لاحقاً من دون توجيه أية تُهم إليهم. وتُعرف القضية باسم "الشمري وآخرون ضد سي. إي. سي. آي". 
وعملت الشركة الخاصة، ومقرها الرئيسي في ولاية فيرجينا منذ عام 2008، لمصلحة الحكومة الأميركية في العراق منذ عام 2003. وحاولت ولسنوات الطعن في شرعية الادعاء والحيلولة دون بدء المحاكمة تحت حجج مختلفة، بما فيها حصانتها وحصانة العاملين لديها من المحاكمة. ورفعت الدعوى وفقاً لقانون أميركي صادر عام 1789، وهو قانون الضرر الأجنبي (ATS). ويسمح القانون لغير المواطنين الذين تعرضوا لانتهاكات راسخة للقانون الدولي مثل التعذيب والمعاملة القاسية، برفع دعوى أمام المحاكم الأميركية، بما في ذلك ضد شركات أميركية، عندما تكون هناك صلة كافية بالولايات المتحدة، بحسب المركز. 

وتقول الباحثة في الشأن العراقي في منظمة "هيومان رايتس واتش" سارة صنبر، لـ "العربي الجديد": "هذه أول حالة تصل إلى المحاكمة ويمكن أخيراً لهؤلاء الرجال العراقيين الحصول على حقهم بأن تكون هناك محاكمة، ونأمل أن يأمر القاضي بتعويضات والاعتراف الذي يستحقونه. على الرغم من ذلك، فإن هؤلاء الرجال هم من القلائل جداً المحظوظين الذين تمكنوا بعد عقدين من الانتهاكات ضدهم من قبول البت في قضيتهم وبدء المحاكمة بعد كل هذا الوقت. وهذه حالة نادرة، إذ لم تنجح كل محاولات الشركة لإسقاط القضية".  
وفي ما يتعلق بالسياق العام، تشرح صنبر أن "أحد أسباب نجاح ذلك على الرغم من الصعوبات الهائلة هو أن القضية هي ضد شركة متعاقدة مع الحكومة وليس ضد الحكومة نفسها. وكانت هناك الكثير من الدعاوى التي رفعت في محاولة لإجبار الحكومة الأميركية على تحمل مسؤوليتها والمحاسبة، إلا أنها أسقطت باستمرار بسبب قانون تم تبنيه عام 1946 يعطي حصانة للقوات الأميركية من المحاسبة عن أي جرائم ترتكب خلال حروبها". وتلفت إلى "عدم وجود أية محاولات جدية من الحكومات المتعاقبة على فرض المحاسبة أو التعويض بصورة منظمة وجدية للضحايا"، مضيفة: "لن تكون 
هناك عدالة حقيقية إلا عندما تتحمل الحكومة الأميركية المسؤولية عن أفعالها". 

خلال جولة في سجن أبو غريب (جون موور/ Getty)
خلال جولة في سجن أبو غريب عام 2005 (جون موور/ Getty)

ويشير مركز الحقوق الدستورية إلى أنه "خلال العقدين الأخيرين، جنت الشركات (العسكرية الخاصة) مليارات الدولارات من خلال تقديمها خدمات في العراق وأفغانستان والمنطقة المحيطة، تتراوح ما بين تأمين الحماية لمسؤولين حكوميين وجمع المعلومات الاستخبارية والتحليل والدعم اللوجستي"، مؤكداً عدم وجود نظام محاسبة وإشراف على عمل تلك الشركات بالمستوى اللازم. ويشير إلى أن وزارة العدالة الأميركية تتحمل كذلك المسؤولية للتحقيق وتقديم شكاوى ضد تلك الشركات المتعاقدة في حال ارتكابها جرائم دولية، إلا أن ذلك نادراً ما يحدث، ولم تقم وزارة العدل بتوجيه أية اتهامات ضد أحد من المتعاونين لانتهاكات التعذيب أو جرائم حرب في العراق.    
وتؤكد صنبر على أن "من الضروري أن نتذكر أننا هنا نتحدث عن بشر عانوا وتم تعذيبهم وأثرت تلك الجرائم التي ارتكبت ضدهم على حياتهم. مرّ عشرون عاماً، لكن الصدمة الجسدية والنفسية والاجتماعية وغيرها تبقى معهم وتذكرهم دائماً بما حدث. كما أن عدم حصولهم على عدالة لا يساعد في شفائها، والحاجة إلى العدالة لن يمحوها مرور عشرين عاماً أو أكثر على الانتهاكات التي مورست بحقهم وعلينا أن نتذكر هذا".  

المحاكمة 

يتوقع مركز الحقوق الدستورية أن تستمر المحاكمة وجلسات الاستماع إلى قرابة ثلاثة أسابيع. وحاولت الشركة وعلى مدى ستة عشر عاماً وحوالي عشرين مرة (في قضايا وقضايا استئناف مختلفة) الطعن في شرعية القضية وإسقاطها. ورفع المركز القضية بموجب القانون المذكور آنفاً بادعاء انتهاكات للقانون الأميركي والقانون الدولي، في قضايا تشمل التعذيب، والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وجرائم حرب والاعتداء والضرب والاعتداء الجنسي، والتسبب المتعمد في الاضطراب العاطفي والإهمال في التوظيف والإشراف. 
ويسعى المركز من خلال القضية للحصول على تعويضات عقابية. ويرى المدّعون أن الشركة شاركت في مؤامرة لارتكاب سلوك غير قانوني بما في ذلك التعذيب وجرائم الحرب في سجن أبو غريب، إذ كانت قد تعاقدت مع الحكومة الأميركية على تقديم خدمات الاستجواب. ويشير المركز إلى أن المدعين الثلاثة كانوا محتجزين جميعاً ما بين 2003 و2004 في سجن أبو غريب، واستُخدمت ضدهم أقسى أساليب التعذيب والانتهاكات اللاإنسانية.

عراقي في سجن أبو غريب عام 2005 (جون موور/ فرانس برس)
عراقي في سجن أبو غريب عام 2005 (جون موور/ فرانس برس)

عدالة غائبة أو مؤجلة 

يلفت مركز الحقوق الدستورية الانتباه إلى أن دور شركة "سي. إي. سي. آي" في التعذيب وسوء المعاملة الخطيرة للمدنيين العراقيين في أبو غريب موثق جيداً. وهنا يتحدث عن تقرير أعده اللواء في الجيش الأميركي أنتونيو تاجوبا، حول مزاعم إساءة معاملة المعتقلين في أبو غريب في عام 2004. وخلص إلى أنه في الفترة ما بين أكتوبر/ تشرين الأول وديسمبر/ كانون الأول عام 2003 "وقعت حوادث عديدة تتضمن انتهاكات إجرامية سادية وصارخة ووحشية ضد العديد من المعتقلين، وقد وجهت الاستخبارات العسكرية الأميركية وشركة سي. إي. سي. آي أوامر إلى الشرطة العسكرية بتهيئة الظروف" لاستجواب المعتقلين. 
ويفيد تقرير المركز بأن "أعضاء من الشرطة العسكرية الأميركية شهدوا أنه كان متفاهماً عليه بين محققي شركة سي. إي. سي. آي والجنود أن مصطلحات التليين والمعاملة الخاصة تعني إلحاق ضرر جسدي وعقلي خطير بالمعتقلين".
ولم يكن تقرير تاجوبا الرسمي الوحيد الذي خلص إلى نتائج مشابهة بارتكاب انتهاكات وجرائم بحق عراقيين في أبو غريب. على سبيل المثال، خلص تقرير عسكري آخر (فاي/جونز) صدر في أغسطس/ آب 2004، إلى أن "الشرطة العسكرية، وجنود طبيين، ومقاولين مدنيين يتحملون درجة ما من المسؤولية أو التواطؤ في الانتهاكات في أبو غريب". وتمت الإشارة إلى تورط ثلاثة من موظفي شركة "سي. أي. سي. آي" على الأقل في الانتهاكات. 
ويلفت المركز الانتباه إلى الأدلة الدامغة التي تمكن المركز من الحصول عليه من خلال الدعوى والتي تشمل الرسائل الإلكترونية وسجلات المحاكمة العسكرية وشهادات تظهر دور مقاولي "سي. أي. سي. آي" في الانتهاكات. وتذهب تلك الأدلة أبعد من ذلك، إذ إن الشركة رفضت التصرف حتى بعد وجود تقارير محددة عن انتهاكات وسوء سلوك ارتكبه موظفوها. والأدهى من ذلك أنها قامت بمحاولات التستر على ذلك، بحسب المركز. وتدعي الشركة عكس ذلك، إلا أن مركز الحقوق الدستورية يؤكد وجود "أدلة موثوقة على أنها ساعدت أو حرضت أو ساهمت بطريقة أخرى في مؤامرة لتعذيب وإساءة معاملة المدعين الثلاثة وفقاً للقانون الأميركي والدولي".

سجين عراقي يحصل على كوب من الشاي في سجن أبو غريب (جون موور/ فرانس برس)
سجين عراقي يحصل على كوب من الشاي في سجن أبو غريب (جون موور/ فرانس برس)

عدالة مؤجلة

نشرت منظمة "هيومان رايتس واتش"، بالإضافة إلى منظمات حقوقية أخرى، عدداً من التقارير والتحقيقات حول موضوع المحاسبة على الجرائم التي ارتكبها الأميركيون وقوى التحالف في العراق ومناطق أخرى كأفغانستان، فضلاً عن توثيقها عمليات التعذيب. 
وفي أحد التقارير الصادر مؤخراً في سبتمبر/ أيلول الماضي، أشارت إلى ما أسمته "تقاعس الحكومة الأميركية عن تقديم التعويضات وغيرها سبيلاً لإنصاف العراقيين الذين تعرضوا للتعذيب والانتهاكات من القوات الأميركية والشركات المتعاقدة معها في سجن أبو غريب، وسجون ومعتقلات إضافية كانت تحت إداراتها في العراق". 
ويشير التقرير إلى أن وزارة الدفاع الأميركية في أغسطس/ آب عام 2022 "أصدرت خطة عمل لتقليص الضرر للمدنيين الناجم عن العمليات العسكرية الأميركية، إلا أن ذلك لم ينص على أي طريقة يمكن من خلالها منح تعويضات للمدنيين الذين تضرروا سابقاً من عملياتها".  
وبحسب "هيومان رايتس واتش"، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها اعتقلوا بعد الغزو الأميركي للعراق "نحو 100 ألف عراقي بين 2003 و2009". كما تتحدث المنظمة الدولية عن تقرير آخر صادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر في فبراير/ شباط 2004 موجه إلى التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة، ومفاده بأن عناصر من المخابرات العسكرية الأميركية أخبروا الصليب الأحمر بأن ما بين سبعين وتسعين في المائة من الذين احتجزوا على يد الأميركيين والتحالف في العراق عام 2003 اعتلقوا عن طريق "الخطأ". 

وتتحدث المنظمة في تقريرها عن "اعتذار الرئيس الأميركي جورج بوش عام 2004 عن "الإذلال الذي عاناه السجناء العراقيون في أبو غريب"، وأقوال وزير الدفاع رونالد رامسفيلد أمام الكونغرس بعد فترة قصيرة، ومفادها بأنه "وجد طريقة قانونيّة لتعويض المعتقلين العراقيين الذين عانوا الانتهاكات والقسوة الأليمة والوحشية على أيدي عدد قليل من أفراد القوات المسلحة الأميركية. هذا ما يجب فعله، وأنا عازم على أن أراه يتحقق".  تصريحات بوش حاولت التستر على وجود مشكلة حقيقية منهجية بحيث تصف ما حدث بأنه سلوك مشين ولكن فردي. لكن حال الواقع بما فيه تحقيقات أجرتها هيومن رايتس ووتش ومنظمات حقوقية أخرى أظهرت وجود مناخ مكّن من التعذيب. كما وجدت أن "قرارات متخذة على أعلى المستويات الحكومية مكنت حصول هذه الممارسات أو وافقت عليها أو بررتها. كان أبو غريب مجرد مركز من بين عدة مراكز اعتقال عسكرية أميركية ومواقع سوداء تابعة لوكالة المخابرات الأميركية في جميع أنحاء العالم مارس فيها العسكريون وعملاء المخابرات والمتعاقدون الأميركيون التعذيب وغيرها". 
ويشير التقرير كذلك إلى الدور المركزي الذي لعبه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد آنذاك بدءاً بوصفه للمعتقلين الأول الذين هم في معتقل غوانتانمو بـ "مقاتلين غير شرعيين". وبذلك عمل على حرمانهم، بحسب هيومن رايتس ووتش، من الحماية التي توفرها لهم "اتفاقيات جنيف". وتشير المنظمة إلى أنه وفي الشهر نفسه "كثفت إدارة بوش جهودها للتحايل على حظر التعذيب محلياً ودولياً، وأصدر مكتب المستشار القانوني الأميركي التابع لوزارة العدل مذكرات سعت إلى تبرير التعذيب قانونياً وحماية الضالعين فيه". 
وتؤكد المنظمة أن "حرمان المعتقلين من الحماية مكّن رامسفيلد من توسيع قائمة أساليب الاستجواب المستخدمة ضد السجناء في غوانتانمو بين 2002 و2004. كما توصلت تحقيقات للحكومة الأميركية لاحقاً، من بينها تقرير شليسنغر، إلى أن التقنيات المعززة التي وافق عليها رامسفيلد في غوانتانمو انتقلت إلى أفغانستان والعراق، ومورست بلا حدود أو ضمانات".  
كما تشير المنظمة إلى أنه وعلى عكس ادعاءات رامسفيلد أمام الكونغرس المذكورة آنفاً، لم تجد أي دليل على أن الحكومة الأميركية دفعت تعويضات أو قدمت أي سبل انتصاف أخرى إلى السجناء ضحايا الانتهاكات، فضلاً عن عدم تقديمها اعتذاراً رسمياً أو أشكال جبر فردية أخرى". ويواجه الضحايا من غير الأميركيين الذين يريدون البحث عن المحاسبة عقبات مالية وبيروقراطية وغياب نظم واضحة أو قنوات لتحقيق المحاسبة. 
يؤكد المركز الأميركي للحقوق الدستورية أن الكشف عن انتهاكات أبو غريب وفضائحه شكل ضغطاً وارتفعت الأصوات المطالبة بالمحاسبة، إلا أن واقع الحال يظهر أن المحاسبة كانت في الغالب ضد عدد صغير جداً من الجنود برتب منخفضة. على الرغم مما قد يتمخض عن محاكمة اليوم من نتائج، لكن مجرد بدئها يعد انتصاراً ومن دون شك هو رمزي ليس للأفراد الثلاثة فقط، لكن لغيرهم من العراقيين ضحايا جرائم الحرب، على الرغم من أنه نقطة في بحر تلك العذابات التي سبّبت تدمير العراق إلى اليوم، لكنها من دون شك خطوة في مشوار الألف ميل.  

المساهمون