في القرن الحادي والعشرين، يصعد وزير خارجية إلى منصته الرسمية ليقول العبارة الآتية: بلدنا لم يمارس حقه بمنع النازحين السوريين من ممارسة أمور لا يحق لهم القيام بها، وأمّن للنازحين حرية التنقل والتعلم.
هو وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، الذي يمثّل "تكتل التغيير والإصلاح"، الذي يتزعمه النائب ميشال عون. لم يعد تعبير "العنصري" وافياً لوصف مواقف وأداء وزراء "تكتل التغيير والإصلاح" تجاه اللاجئين من سورية. هم يتحوّلون إلى قطّاع طرق وخارجين على القانون حيناً، ومتّهمين بتنفيذ انقلاب ديموغرافي حيناً آخر. بالنسبة للتكتل، بات النازحون وباءً أشدّ قسوة من الكوليرا وأكثر فتكاً من الطاعون. هم صنف جديد من السرطان، تولّد في البلد، لينهش مؤسساته ويهجّر أهله ويقضي على اقتصادهم وأعمالهم (إن وجدوا أساساً) وأرضهم.
حلّ وزير الخارجية، جبران باسيل، ضيفاً ثقيلاً على الشاشات المحلية، اليوم الجمعة، ليستكمل سياسة تكتله تجاه اللاجئين من سورية. كلام باسيل جاء هذه المرة من منصّة رسمية، من موقع وزير الخارجية لا من فندق في منطقة الأشرفية (كما فعل سابقاً الوزير السابق نقولا صحناوي) ولا خلال مأدبة غداء على شرف إهانة السوريين. قدّم باسيل أبشع المقاربات، تناولت نسبة الولادات السورية وأعداد الطلاب السوريين في المدارس وقارنها بالأرقام اللبنانية. مقابل 40 ولادة لبنانية "تسجّل المستشفيات 80 حالة ولادة سورية"، وتقول الإحصاءات إنّ "عدد الطلاب السوريين بلغ 88 ألفاً مقابل 85 ألف طالب لبناني". وكشف أن نسبة اللاجئين السوريين تجاوزت 35 في المئة من نسبة سكان لبنان.
أمام هذه الأرقام "المخيفة" لجهة كثافة النزوح السوري، قرر باسيل أنّ على الدولة السير في تدابير صريحة في عنصريتها ويمينيّتها ولاإنسانيتها، مثل اعتبار "تكرار الولادة للنازح ثلاث مرات يلغي صفة النزوح السياسي".
بات باسيل، ومَن يقف خلفه، يبحث عن سياسات تحديد النسل للمحافظة على نقاء مجتمعه. وعدا منّة حق التعلم وحرية التنقّل، منّن وزير الخارجية اللاجئين بإعطائهم "كهرباء بقيمة 100 مليون دولار شهرياً". بالنسبة لباسيل، فشلت الدولة اللبنانية في معالجة ملف اللجوء من سورية، وكذلك "أخفق المجتمع الدولي في تحمل مسؤولياته تجاه اللاجئين".
تناقضات باسيل كثيرة: يقول إنه يستحيل "الموافقة على إنشاء مخيّمات لجوء لكون ذلك يعني إنشاء بلدات سورية داخل لبنان"، وفي الوقت عينه ينتقد تشتّت اللاجئين على طول الأراضي اللبناني ويشكو بصفته الرسمية غياب الدراسات والإحصاءات. يتّهم الدول المانحة بالتقصير في التمويل، ليقول بعد دقائق، إنّ "كل المساعدات التي تصل مباشرة الى النازح السوري تشجعه على البقاء في لبنان وإنشاء مخيمات ستمنع السوريين من عودتهم الى سورية". يريد باسيل الايحاء بأنّ كل لاجئ سوري يريد البقاء في لبنان للحصول على مبلغ 27$ في الشهر (هي قيمة المساعدات الدولية للاجئ الفرد شهرياً). أو ربما، هو فعلاً يعتبر أنّ كرامة هؤلاء الفقراء تساوي هذا المبلغ، فيفضلون البقاء في حياة الذلّ هذه، بدل العودة إلى قراهم وأرزاقهم.
يبحث فريق باسيل عن كل النقاط السوداء في الوضع الاقتصادي اللبناني لإلصاقها باللاجئين. يتجاهل "التكتل" الكثير من التقارير والأرقام الاقتصادية التي تؤكد انّ تردّي الاقتصاد اللبناني يعود إلى معايير أخرى لا دخل للسوريين الموجودين في لبنان بها. فقد جاء في التقرير السنوي لبنك عودة، أحد أكبر المصارف اللبنانية، أنّ "توافد اللاجئين السوريين يشكل دعماً جزئياً للنمو، خصوصاً أن أعدادهم تجاوزت أعداد السياح الذين أضاعهم لبنان. وفي حين أنه من الصحيح أن هؤلاء اللاجئين لا يشاركون سمات الإنفاق نفسها للسياح عامة، إلا أن فترة إقامتهم أطول بكثير من فترة إقامة السياح، ما يوفر دعماً لافتاً لقطاعات مثل استهلاك السلع الأساسية والإيجارات السكنية والقطاع التعليمي". كما أشارت دراسة أعدتها منظمة "هاينرش بول" إلى أنّ اللاجئين السوريين، خصوصاً الطبقتين الوسطى والعليا، أعطوا دفعاً للطلب الفعلي على المساكن والاستهلاك والطلب على النقل وعلى الخدمات الأخرى. وبحسب دراسة أجرتها "أوكسفام" في لبنان، ينفق النازحون على الأقل 275 دولاراً في الغذاء و225 دولاراً على السكن، أي 520 دولاراً شهرياً دون احتساب التنقلات والمصاريف اليومية والحياتية والخدماتية الأخرى التي تساهم في تحريك العجلة الاقتصادية خصوصاً في مناطق الأطراف.
في دراسة "هاينرش بول" يقول الباحث الاجتماعي، وزير المال السابق جورج قرم، إنّ النزوح السوري "يشكل عبئاً نفسياً على اللبنانيين أكثر منه اقتصادياً ومالياً، وهو يخيفهم لجهة التوازنات الديمغرافية الدقيقة والحساسة بين الطوائف والمذاهب، مع قلق من أن يتحوّل كثر منهم الى مقيمين دائمين".
تساهم قراءة قرم في تفسير بعض ما يشعر به باسيل ومن خلفه. هو الخوف من الديمغرافيا، والخوف من "الغرباء" على ما يأتي بشكل دوري على لسان وسائل إعلام تكتل التغيير والإصلاح. الغرباء، أي اللاجئين من سورية، ويمكن إضافة إليهم صنف آخر من "الأمراض الاجتماعية" كاللاجئين الفلسطينيين.
البحث عن صوت
لا يعلم باسيل وفريقه السياسي على من يجب رمي مسؤولية أزمة اللاجئين. طبعاً هم لا يحملون المسؤولية لحليفهم، النظام السوري. يبحث هذا الفريق فقط عن مواد إعلامية للخروج إلى الناس وإطلاق الاتهامات من دون اعتبارات إنسانية ولا أخلاقية، ومن دون تقديم حلول ولا خلاصات. يعنيهم الكلام فقط، أو التشبيح الإعلامي بلغة أخرى. يريدون القول إنهم يؤدون قسطاً من عملهم في مؤسسات الدولة، على حساب الهاربين من أرض الموت، أو على حساب الفراغ الرئاسي (مبادرة عون الإنقاذية للرئاسة) أو حتى تعطيل جلسات مجلس النواب.