أمناء الشرطة المصرية...همزة الوصل بين "أسياد البلد" و"أنصاف المواطنين"

19 فبراير 2016
اقتضت مهمة أمناء الشرطة بتنكيل وتعذيب المصريين(فرانس برس)
+ الخط -
أنشأ وزير الداخلية المصري، شعراوي جمعة عام 1967 معهد أمناء الشرطة في منطقة طرة البلد، جنوب القاهرة، لتخريج رجال شرطة على قدر من التعليم والمسؤولية. وكانت أبرز شروط الانتساب إلى المعهد، أن يكون الطالب حاصلاً على شهادة الثانوية العامة أو ما يعادلها، على أن يلتحق بالمعهد لمدة عامين يدرس خلالهما المواد الشرطية والحقوقية ويتم بعدهما تخريجه أمين شرطة ثالثا. ويتدرج من ثالث إلى أمين ثانٍ ثم أمين أول. وبذلك يكون مرّ على خدمته 15 عاماً. وبعد ذلك، يرقّى إلى رتبة ملازم شرطة على أن يكون ضابط شرطة على كفاءة عالية، مقارنة بضباط الشرطة خريجي كلية الشرطة الحديثين.

إلّا أن دور أمين الشرطة، فَقَد مضمونه ومعناه مع مرور الوقت، وأصبح الأمين أداة في يد ضابط الشرطة الذي يحركها في الأحياء والأماكن الشعبية والعامة التي يتمكن هذا الأمين من الانخراط فيها وفهم طبيعة أناسها، وتكوين علاقات معهم. ثم تحوّل دور الأمين، لاحقاً، إلى أداة قمع وتنكيل، سواء بتعليمات من الضباط أو بدوافع شخصية، ورغبة في السيطرة والظهور في حيّز السلطة.

وقامت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، أساساً، في صورة تظاهرات حاشدة تطالب بتطهير وزارة الداخلية المصرية عقب توالي حالات التعذيب في أماكن الاحتجاز المختلفة. وكانت واقعة تعذيب ومقتل الشاب السكندري خالد سعيد على يد أمينَي شرطة، في 6 يونيو/حزيران 2010، بمثابة الشرارة الأولى للثورة التي انطلقت يوم عيد الشرطة المصرية في الـ25 يناير/كانون الثاني.

ويبدو أن وزارة الداخلية المصرية صدّقت قول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أنّ "هناك مؤسسات لا تتحمل الانتقاد لأنها تتأثر بذلك؛ مثل مصطلح إصلاح الداخلية". وتماهت في "التأثر" من المطالبات بإصلاحها، فكانت النتيجة حلقات تعذيب متتالية تصل إلى حدّ القتل كما حدث أمس الأول الخميس، في منطقة الدرب الأحمر، شمالي العاصمة المصرية القاهرة، حيث أقدم أمين شرطة، الخميس، على قتل المواطن محمد عادل إسماعيل بإطلاق رصاصة مباشرة في رأسه، إثر مشادة كلامية نشبت بينهما على تسعير خدمة.

الواقعة نفسها، وإنْ اختلفت في تفاصيلها، تماثل وقائع قتل أخرى على يد أمناء شرطة في مصر كان من بين ضحاياهم؛ طلعت الرشيدي الذي مات إثر التعذيب في قسم شرطة الأقصر، وعفيفي حسن الطبيب الذي مات إثر التعذيب في قسم شرطة أول الإسماعيلية، أواخر العام الماضي، ما أحدث ردود أفعال غاضبة في مصر، مهّدت لشرارة مقبلة. وفيما يصرّ السيسي وقيادات وزارة الداخلية المصرية في تصريحاتهم على أنّه "لا يوجد أي تعذيب في مصر، لكن هناك اعتداءات من نوع آخر"، ينجرف الشارع المصري لناحية القصاص الشعبي، "العين بالعين والسن بالسن".

ويرى نشطاء وباحثون، أن نشأة وظيفة أمين الشرطة ظهرت في سبعينيات القرن الماضي بعد ازدياد التعداد السكاني وتنامي التوسع العشوائي، فاضطر ضابط الشرطة للعمل في أماكن تختلف تركيبتها الاجتماعية جذرياً عن الأماكن التي اعتادوا العمل فيها. هكذا ظهرت الحاجة لأمين الشرطة، مدني تلقّى قدراً من التعليم ومن خلفية اجتماعية بسيطة، مما يؤهله للتعامل مع قطاعات شديدة العشوائية والهامشية، وبرواتب أقل من الضباط بطبيعة الحال.

اقرأ أيضاً مصر: المئات يحاصرون "أمن القاهرة" بعد قتل شرطي لسائق

وقام أمين الشرطة بدور الوسيط بين الضباط أبناء الطبقة الوسطى وبين من يعتبرونهم "أنصاف مواطنين". وجد الفقراء في "الباشا الأمين" همزة الوصل القادرة على توصيل شكواهم ومطالبهم لـ"البكوات الضباط" "أسياد البلد". "وربما هنا مكمن العلّة، بحسب هؤلاء النشطاء، إذ يستمد الأمين إحساساً مفرطاً وطاغيا بالقوة من احتياج الضابط له مع مرارة عدم التقدير والإحساس بالظلم. فهو لا يرى نفسه أقل كفاءة من الضابط، بل ربما يرى نفسه أكثر قدرة ومعرفة منه، مع إطلاق يد غير محدودة في مناطق نفوذهم، مما جعل من أمين الشرطة "الحاكم بأمره". يلجأ إلى هذا الأخير الخارجون على القانون وتجار المخدرات لتسيير أعمالهم. بدوره، يلجأ هو للفساد لتعويض الفارق المادي بينه وبين "البك" الضابط، بفرض الإتاوات (الخوّات) والتهديد بتلفيق القضايا للبسطاء من الفقراء الواقعين في نطاق نفوذه لضمان السلطة والهيبة. ولا مانع من تلفيق القضايا بالفعل للأبرياء وذلك لاستيفاء العدد المطلوب إعلانه في الإحصاءات الرسمية.

وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن حوالي 6600 أمين شرطة تمّت إدانتهم خلال العشرة أعوام الماضية في قضايا سرقة، واتجار مخدرات وتعاط، وقضايا آداب، ونصب وانتحال صفة، وقتل، ورشوة، والتقصير في أداء مهامه، واستعمال القسوة مع المواطنين، فضلاً عن المدانين من ضباط الشرطة والجنود. وتلفت التقديرات ذاتها، إلى أن عدد القضايا التي قيدت ضد مجهول في الفترة (1997 – 2008) فقط بلغت 9 ملايين و625 ألف قضية تقريباً. وخلال العشر سنوات الماضية، قتل حوالي 600 مواطن داخل أقسام الشرطة نتيجة التعذيب. كما أنّ إجمالي من تعرّض للتعذيب من المواطنين المصريين الذين يدفعون من جيوبهم رواتب ضباط الشرطة، بلغ 11250. وقُدّر عدد المواطنين المصريين المصابين بعاهات مستديمة على يد رجال الشرطة بـ4220. وبلغ عدد المعتقلين السياسيين على يد رجال الشرطة 140 ألفا. وشهدت المحاكم المصرية 21 ألف قضية رفعها مواطنون ضد وزير الداخلية وسياساته وأداء ضباطه ورجاله.

وبعد جريمة الدرب الأحمر، انتشرت عبر مواقع التواصل فيسبوك وتويتر دعوات بعنوان "حاتم لازم يتحاكم"، في إشارة منهم إلى شعار "مفيش حاتم بيتحاكم". وحاتم هو شخصية أمين الشرطة التي جسدها الفنان خالد صالح وأخرجها خالد يوسف في فيلم "هي فوضى". وتهدف الدعوة إلى التظاهر على سلم نقابة الصحافيين المصرية للمطالبة بمحاكمة أمناء الشرطة، وتطهير جهاز وزارة الداخلية المصرية.

من جانبه، طالب الفقيه الدستوري محمد نور فرحات، بإغلاق معهد أمناء الشرطة بعد مقتل أحد أهالي منطقة الدرب الأحمر على يد أمين شرطة. وقال فرحات على حسابه الخاص عبر موقع فيسبوك، إن "انتهاكات الحق في الحياة، وسلامة الجسم، والكرامة الإنسانية، وحوادث التعذيب، والاختفاء القسري، والقبض على الناس عشوائياً تتسبب تراكماتها في مشاكل غير محسوبة النتائج. ولا بد من التعامل مع شعب قام بثورة من أجل الكرامة بطريقة تحفظ كرامته، وإلّا فإن العواقب وخيمة. أعداء النظام هم من يعتدون على حقوق وحريات الشعب ويستهينون بكرامته".

واقترح فرحات "إغلاق معهد أمناء الشرطة ووقف قبول أية دفعات به، والتفكير في إحياء نظام معاوني الإدارة، وهو نظام كان معمولاً به قبل عام 1952، يعيّن بمقتضاه خريج الحقوق في وظيفة شرطية إدارية بعد تدريب شرطي خفيف. ويمارس أعمال التحقيقات والأعمال الإدارية داخل الأقسام. وتقتصر مهمة الشرطة على جمع الأدلة عند وقوع الجرائم والضبط العاجل لانتهاكات الأمن، وممارسة مهمة مأمور الضبط تحت إشراف صارم من النيابة العامة. ويضاف إلى ذلك، إسناد وظائف الشرطة الإدارية كالأحوال المدنية، والجوازات، والحراسات الخاصة إلى أجهزة أخرى مدربة".

كما طالب فرحات بـ"العودة إلى نظام التكثيف في علوم الشرطة والبحث الجنائي والارتقاء بها والاكتفاء بالمعلومات القانونية اللازمة لضباط الشرطة في كليات الشرطة وعدم إثقال الطلاب بالحصول على إجازة القانون. كما يكفل النظام النظر في تدريبهم على الوسائل الحديثة في التحقيق الجنائي التي تصقل خبراتهم بالمستويات الدولية في ظل احترام ضوابط القانون والدستور وعدم التهاون مع أي تجاوز يقع، ونقل تبعية السجون وأماكن الاحتجاز للنائب العام أو إنشاء هيئة مستقلة تمثل فيها منظمات المجتمع المدني للتفتيش على السجون"، على حدّ تعبير الفقيه الدستوري.

اقرأ أيضاً #الدرب_الأحمر... ليلة هتفت فيها منصات التواصل "الداخلية بلطجية"

دلالات