- إقالة وزير الدفاع شويغو وتعيين بيلوسوف بديلاً يعكس استراتيجية بوتين في الحفاظ على تقدم روسيا في الحرب، مع إشارات لتقاعد مبكر لشويغو.
- التغييرات تهدف لإعادة تشغيل موارد الدولة وضمان تكاتف النخب الروسية للانتصار في الحرب ضد أوكرانيا، مع ترقيات تعكس استراتيجية بوتين في الحفاظ على التوازنات وتحديد مجال التنافس على خلافته.
بعد أكثر من أسبوع على تنصيبه رسمياً لولاية خامسة، في 7 مايو/ أيار الحالي، استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حقّه الدستوري وأجرى تعديلات في الحكومة وديوان الرئاسة، يرجح أن هدفها ضبط التوازنات بين أعضاء الحلقة الأقرب له، من أجل التركيز على الحرب المتواصلة على أوكرانيا منذ فبراير/ شباط 2022، لتشي تغييرات بوتين بأنه راضٍ عن أداء رئيس الحكومة ميخائيل ميشوستين، فيما قد تكشف بعض الملامح حول ضبط الخلافات تحضيراً لخلافته.
وفي مؤشر إلى رضاه عن طريقة إدارة ملفي كورونا والتعامل مع التبعات الاقتصادية للحرب على أوكرانيا رغم العقوبات الغربية القاسية، جدّد بوتين الثقة برئيس الحكومة ميخائيل ميشوستين. وبدا واضحاً أن بوتين، المنصب تركيزه على تفاصيل الحرب اليومية، وانشغاله باستحضار التاريخ لتأكيد حتمية فوز روسيا بقيمها المحافظة وأفضلية نموذجها الإنساني على حضارة الغرب الليبرالية، لا يرى خطراً في صعود دور ميشوستين في إدارة الملفات الاقتصادية والتأثير، خصوصاً أن الرجل الذي صعد من مصلحة الضرائب إلى رأس الحكومة، لم يظهر أي بوادر لمنافسة بوتين رغم ازدياد شعبيته، وحافظ على مسافة واحدة من مراكز النفوذ القريبة من الرئيس الروسي ولم يسجل انحيازه إلى أي طرف.
تغييرات بوتين وإقالة شويغو
في المقابل، استغل بوتين حقه في إقالة الحكومة السابقة، لطيّ الصفحة الأخيرة في ملف تمرد مجموعة مرتزقة "فاغنر" الذي شكّل أكبر خطر على حكم الرئيس الروسي منذ اعتلائه سدة الحكم في عام 2000. وشملت تغييرات بوتين إطاحة وزير الدفاع سيرغي شويغو، الذي اختار بوتين مكانه في المنصب، أندريه بيلوسوف، نائب رئيس الوزراء السابق والمتخصص في الاقتصاد. إقالة شويغو، وإن كانت مفاجئة نسبياً، نظراً لأنها جاءت في ظل الحرب المتواصلة، واتُخذت بحق صديق مقرّب، إلا أن بوتين أخرجها على نحو لا يؤثر في سير المعارك التي تحقق فيها روسيا تقدماً في جبهات دونيتسك وخاركيف.
الحديث عن إقالة شويغو بدأ منذ تعثر الجيش الروسي في دخول العاصمة الأوكرانية كييف
الحديث عن إقالة شويغو بدأ منذ تعثر الجيش الروسي في دخول العاصمة الأوكرانية كييف وإنهاء حكم الرئيس فولوديمير زيلينسكي في أيام. وهوت شعبية شويغو مع مشاهد طوابير الدبّابات والمدرعات الروسية من دون وقود وخدمات لوجستية، لكن الضربات الأكثر إيلاماً جاءت بعد اضطرار الجيش للاستعانة بمرتزقة "فاغنر" في الحرب. ومنذ مطلع عام 2023 تداول المراسلون العسكريون مقاطع فيديو لزعيم "فاغنر" الراحل يفعيني بريغوجين، وهو يوجه الشتائم لشويغو بالاسم ويتهمه مع جنرالات في الجيش بعدم تزويد المقاتلين بحاجتهم من الأسلحة والعتاد.
ومن غير المستبعد أن صمت الكرملين عن إهانة شويغو شجّع بريغوجين على إطلاق تمرده صيف العام الماضي لإطاحة وزير الدفاع، لتقدير منه بأن هذا لن يضرّ بالنظام الذي بناه بوتين طوال سنوات حكمه. ولكن حينها، اختار بوتين الانحياز لصالح الجيش كمؤسسة تدافع عن البلاد وتخوض الحرب في أوكرانيا، إلا أن هيبة الجيش الروسي تأثرت كثيراً نتيجة نجاح مئات عدة من المرتزقة في احتلال مقر العمليات المكلف بإدارة المنطقة العسكرية الجنوبية والحرب في أوكرانيا، والتقدم مئات الكيلومترات وصولاً إلى مشارف منطقة موسكو، ولاحقاً تمّ التخلص من بريغوجين (قتل بتحطم طائرته في أغسطس/ آب الماضي بشمالي موسكو)، وترويض "فاغنر" لخدمة المعركة الأساسية ضد أوكرانيا والغرب.
والأرجح أن التمهيد الحقيقي لإقالة شويغو جاء باعتقال نائبه تيمور إيفانوف في إبريل/ نيسان الماضي بتهم الفساد. وتحسباً لأي تأثيرات سلبية، عمد بوتين إلى تعيين شويغو في منصب سكرتير مجلس الأمن الروسي، مع تكليفه بمنصب نائب رئيس اللجنة الصناعية العسكرية التي يقودها بوتين شخصياً. وسكرتير مجلس الأمن الروسي منصب رفيع يسمح لشاغله بالتواصل المباشر مع الرئيس، لكنه فخري لا يتمتع شاغله بموازنات ضخمة، على عكس منصب وزير الدفاع، كما أن سلطته محدودة مقابل سلطة وزير الدفاع على أكثر من 1.5 مليون عسكري ومتعاقد مع الوزارة.
ولإضفاء مزيد من الأهمية على دور شويغو الجديد، ركّزت وسائل الإعلام الروسية على أن منصب سكرتير مجلس الأمن الروسي كان قد شغله نيكولاي باتروشيف، صديق بوتين، وواحد من أقرب الأشخاص إليه، والذي أوكلت إليه مهمات خارجية كثيرة في السنوات الأخيرة، ويعد من أكثر الشخصيات تأثيراً على الرئيس، والأقرب لأفكاره، نظراً لتحدرهما من مدينة واحدة (سان بطرسبورغ – لينينغراد سابقاً) ومن جهاز الأمن الفيدرالي (ومن جهاز الاستخبارات السوفييتية كي جي بي). وشاعت روايات بأن باتروشيف كان من أهم عرّابي إحضار بوتين من سانت بطرسبورغ إلى موسكو في نهاية التسعينيات من القرن الماضي.
ويكمن واحد من تناقضات المهمات الموكلة لشويغو في أنه مجبر على التعاون والتعامل مع سيرغي تشيميزوف، رئيس "روستيخ"، المؤسسة التي تضم مجمع الصناعات العسكرية، خصوصاً أن تسريبات في الأسابيع الأخيرة نقلها موقع ميدوزا المعارض عن مصادر مقربة من الكرملين تفيد بأن فتح ملفات الفساد في وزارة الدفاع جاء على خلفية سجالات اتهم فيها شويغو "روستيخ" بعدم تزويد الجيش بأنواع من الأسلحة الحديثة، والتقصير في تأمين احتياجات المعارك، ما تسبب في عدم تحقيق التقدم المطلوب على الجبهات في أوكرانيا. وبحسب المصادر، فإن تشيميزوف الذي يعد من أقرب أصدقاء بوتين انضم إلى مطالب رئيس الحرس الروسي فيكتور زولوتوف بإقالة شويغو.
ضبط التنافس على الخلافة
من الواضح أن بوتين قرّر الدخول في ولايته الخامسة من دون تعديلات كبيرة في تشكيلة ديوان الكرملين الذي يمثل مؤسسة بيروقراطية كبيرة تضم مئات الموظفين والمستشارين والخبراء في جميع القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية والثقافية والعلمية، لكن تغييرات بوتين على محدوديتها، قد تساهم في رسم صورة أشمل حول هدف الرئيس الروسي ومستقبل الصراعات على خلافته. وأعاد بوتين الثقة برئيس ديوان الكرملين أنطون فانيو، وتأكد بقاء النائب الأول سيرغي كرينكو، المشرف على هندسة السياسة الداخلية، رغم الحديث في الشهور الأخيرة عن انتقال الأخير إلى رئاسة الحكومة أو مهمات أخرى.
يمكن اختصار العنوان الرئيسي الذي تكشفه تغييرات بوتين، بضرورة إعادة تشغيل موارد الدولة
التعديل الأول، والأكثر إثارة للجدل، تمثل في تكليف رئيس مجلس الأمن الروسي السابق نيكولاي باتروشيف بمنصب جديد هو مساعد الرئيس الروسي لقضايا بناء السفن، وهو منصب يحافظ على إمكانية الوصول المباشر لبوتين، وبعض الموارد المالية، ولكنه لا يؤهل صاحبه للتأثير في قرارات بوتين، أو الصراعات حوله. وربما تشكل تغييرات بوتين بداية لتقاعد مبكر لباتروشيف الذي ينضم إلى وزير الدفاع الروسي الأسبق سيرغي إيفانوف، الذي انتقل بشكل مفاجئ في عام 2016 إلى منصب مستشار الرئيس الروسي لشؤون البيئة، بعدما كان من الشخصيات المؤهلة لخلافة بوتين. الفارق في الحالتين أن إيفانوف اختار الابتعاد بعد فقدان ابنه الوحيد، لكن باتروشيف لن يستطيع البقاء في منصب كان يمكن أن يقوي حظوظ ابنه ديمتري، وزير الزراعة السابق في خلافة بوتين، الذي انتقل في الحكومة الحالية إلى منصب أرفع كنائب لرئيس الحكومة، ما يعزز حظوظه في المنافسة على سدة الحكم.
ورغم الجدل حول مدى قوة وتأثير مساعدي الرئيس، فقد أحيا تعيين محافظ مقاطعة تولا السابق أليكسي ديومين، بمنصب معاون بوتين، آماله في التنافس مجدداً على خلافة الرئيس نتيجة عودته إلى موسكو وقربه مرة أخرى من بوتين. ومعلوم أن ديومين شغل منصب الحارس الشخصي لبوتين لسنوات طويلة، وعمل في وزارة الدفاع نائباً لرئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية قبل الانتقال إلى منصب حاكم تولا.
ربما تشكل تغييرات بوتين بداية لتقاعد مبكر لباتروشيف
واللافت أن ديومين سيشرف بعد تغييرات بوتين على صناعة الدفاع والرياضة والهيئة (مجلس الدولة) الاستشارية. ورغم أن معظم التوقعات منذ تمرّد "فاغنر" انصبت على إمكانية تعيينه وزيراً للدفاع، وأنه مع عرابيه، وأهمهم رئيس الحرس الروسي فيكتور زولوتوف، راهنوا على منصب نائب رئيس الحكومة للصناعات العسكرية، فإن تعيينه مساعداً للرئيس لشؤون صناعة الدفاع، قد يكون خطوة أولى للارتقاء في وقت لاحق لمنصب وزير الدفاع بعد الاطلاع على الأوضاع في الوزارة عن كثب مرة أخرى، وتحضيره لقيادتها بعد فترة انتقالية بقيادة الوزير الحالي أندريه بيلوسوف الذي شكل تعيينه مفاجأة نظراً لأنه اقتصادي وليس له أي علاقة بالجيش ولم يؤد الخدمة الإلزامية. وربما الأهم في تعيين ديموين أنه حصل على فرصة جديدة للتنافس على خلافة بوتين.
التعديل الثالث في إدارة الكرملين، حمل ترقية لمكسيم أوريشكين (42 عاماً) من منصب مساعد الرئيس للشؤون الاقتصادية إلى النائب الأول لديوان الكرملين. التعديل وإن لم يرق إلى طموحات المصرفي الشاب، الذي ساهم في إنقاذ الأوضاع الاقتصادية عبر طرحه فكرة فتح حسابات بالروبل الروسي لمواصلة تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي، إضافة إلى قرارات أخرى منحت الروبل قوة للصمود، إلا أنه يحافظ بعد تغييرات بوتين على حظوظه للارتقاء أكثر، سواء من ناحية الحصول على المنصب الذي كان يفضله وهو نائب رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية، أو حتى البقاء ضمن دائرة المرشحين لخلافة بوتين.
ربما يمكن اختصار العنوان الرئيسي الذي تكشفه تغييرات بوتين بضرورة "إعادة تشغيل" موارد الدولة، وتكاتف جهود النخب الروسية الحاكمة للانتصار في الحرب في أوكرانيا، ومؤكد أن بوتين الذي رفع سقف الرهانات على الحرب إلى أعلى درجة ممكن، سعى إلى تذكير النخب المتصارعة بأن خسارة الحرب تعني انهيار النظام بكامله، ما ينعكس سلباً على الجميع ويجردهم من المكتسبات المحققة.
ومع نظرة عامة على تغييرات بوتين والشخصيات التي صعدت أو تراجع نفوذها، من غير المستبعد أن تكون التعديلات مؤقتة، بانتظار جلاء الصورة بعد توقف أصوات المدافع في أوكرانيا، لكن المؤكد أنها راعت، قدر الإمكان، المحافظة على التوازنات القائمة في الحلقة الأقرب لبوتين، ومنع نشوب أي صراعات على السلطة قد تضعف التركيز على الهدف الأساسي في الحرب، وحدّدت مجالاً وحيداً للتنافس على خلافة الرئيس في مساهمة هذا الفريق أو ذاك في تمكين مرشحه من تقديم أفضل ما يمكن لكسب حرب بوتين ضد الغرب.