المواطنة وكابوس العنف

12 أكتوبر 2014
+ الخط -
نجح تنظيم الدولة الإسلامية في خلق هستيريا شعبية، وخوف جماهيري. وكما في كل هستيريا شعبية في عصرنا، اختلط الخيال المحلي وقصصه الشعبية بتكنولوجيا الاتصالات. وتشابكت الخرافة بتقنيات أفلام هوليوود التي تتباهى بعمليات ذبحٍ، يقوم بها أوباش الوحدات الخاصة الأميركية، عند اقتحامهم الأسطوري حصن أعداء بغيضين، وتحرير مخطوفة جميلة، بإغلاق فم الحرس بيد، وذبحهم، برشاقة بالسكين، باليد الأخرى. وتتبرع شبكات بث عربية بعرض هذه الروائع السينمائية التي غالباً ما يلعب فيها العربي دور العدو الكريه، الذي لا يثير ذبحه اشمئزاز أحد. ومن جرائم داعش الكثيرة أنه منح المجرمين في منطقتنا فرصة الظهور بمظهر المتحضرين، بعد أن التقت قوى عديدة على تركيز الشر في بؤرة واحدة، مع أن بعضهم لم يتورع عن ذبح الأطفال في الحولة وغيرها. وأصبح إظهار الاشمئزاز من أساليب داعش ملجأ لكل نذل، وهي مثيرة للاشمئزاز والغضب فعلاً، من دون الحاجة إلى هذه المساهمات.

عرفت الشعوب الغربية المقصلة باعتبارها من إنجازات الثورة الفرنسية في تطوير تقنية قطع الرؤوس، والتي كانت في أوروبا عصر النهضة، وفي الجزر البريطانية، تنفذ بالبلطة، ما عدا في حالة الكفر والسحر اللذين استحقا حرق المدان (أو المدانة) حيّاً. وقد نفذ قطع الرؤوس في ساحة عامة في مركز المدينة (كما كان حال الشنق في بعض الدول العربية، حتى مرحلة متأخرة). ولو وجد التلفزيون، في حينه، لنقل بالبث الحي والمباشر، عبرة لمن اعتبر.

 


لا شك أن التنظيم ظلامي فعلاً، وخطره الأساس كامن في استباحة دم من يخالفه، وفي عدائه للعمران والمدنية، وعدائه البنيوي للدولة، ولو اتخذها اسما. وهو يطبّق نصوصاً بحرفيتها مأخوذة من عصور غابرة، لم يتميّز فيها المسلمون بقسوة وسائلهم قياساً بالآخرين. لقد عرفت الإنسانية، حتى الحداثة المبكرة، طقوس تعذيب الجسد والتمثيل به للقصاص، وأيضاً، في التحقيق الهادف لابتزاز اعترافِ أو لكسر الإنسان، وإلغاء إنسانيته.

واستمرت نظم شمولية، وأنظمة كولونيالية، في استخدام التعذيب وسيلةً حتى الحداثة المتأخرة، أي حتى أواخر القرن الماضي. وما زال هذا سائداً في دول عربية، وغير عربية، في العالم الثالث. فلا يمكن فصل ممارسات مثل هذا التنظيم عن تجربة المواطن مع أجهزة الأمن، في دول الاستبداد، وتفننها في ابتكار أدوات التعذيب وانحرافاتها السادية التي لا تخطر حتى ببال داعش. ولا شك أن النظام السوري قد بزَّ أترابه في هذا المضمار.

ومن المعروف أن ثورة 25 يناير كانت في دوافعها المباشرة موجهة ضد عنف الأمن المصري، وممارساته التي رمز لها بما جرى مع عماد الكبير وخالد سعيد عشية الثورة. ولكن الأمن المصري عاد طليق اليدين إلى ممارسات أسوأ، فأصبح يبدأ في تعذيب المعتقلين جهاراً نهاراً أمام الكاميرات، عند اعتقالهم في نوع من "استعادة الهيبة"، بعد التذلل أمام ثورة 25 يناير.
ومن بين المنظمات السياسية، العلمانية اليسارية واليمينية والقومية والدينية الكردية والعربية والتركية والإيرانية وغيرها، من يستخدم العنف والقتل والتعذيب ضد المدنيين، وينظم حتى المذابح انتقاماً من بيئة الخصوم الاجتماعية، أو لإرهابها، بالمعنى الحرفي للإرهاب، أي الترويع. والفاشية ليست حكراً على اليمين، فقد يكون اليسار، أيضاً، فاشيّاً في إعلائه قيمة الحزب والأيديولوجية المغلقة فوق قيم الحياة والحرية والسعادة كخيار فردي.

ومن المثير للاستهجان أن تجنيد بعض هذه الحركات نساءً، سافرات أو محجبات، للقتال، يجعلها "تقدميّةً" في نظر بعضهم. لقد جندت العصابات الصهيونية نساءً بـ"الشورت"، وهي ترتكب مذابحها عام 1948، وفعل ذلك أيضا الخمير الحمر اليساريون، فضلاً عن ثوريي الحرس الأحمر الصيني في الستينيات، والبلاشفة في مراحل الإرهاب الثوري. ولم تخل الساحة العربية والكردية والإيرانية من الأمثلة.

لا شك أن الرقابة على عنف السلطة وتراجع نسبة العنف الجسدي في التعامل السياسي من أهم مؤشرات التحضر والتقدم، ومن أهم إنجازات المواطنة. ونقد استخدام العنف ضد الرأي الآخر، والمطالبة باحترام جسد الإنسان وروحه، وخصوصيتهما، من مقومات المواطنة في عصرنا. والهستيريا الجماعية لا تكفي لهذا الغرض.

 وتبقى، بعد ذلك، مهمة أكثر تعقيداً، فالمجتمعات التي باتت تضبط ممارسة العنف الجسدي ضد مواطنيها، غالباً ما لا تبدي حساسية تجاه استخدامه ضد غير المواطنين، بإطلاق صاروخ من طائرة أم مدمرة، والقتل الجماعي بالضغط على زر. وهذا موضوع آخر.