أبو عبد الله الصغير.. البريطاني!
كأنَّ الملك العربي الشقي، محمد بن علي النصري، الملقب بأبي عبد الله الصغير (للتفريق بينه وبين عمّه وعدوّه أبي عبد الله "الزغل")، صار رمزاً لـ "التسليم". قد تكون غرناطة آخر مملكة تسلّم مفاتيح أبوابها إلى من يقرعون تلك الأبواب بالرماح والسيوف. بعد ذلك، لم تسقط ممالك من هذا الطراز على ما أظن، ولم تعد للممالك أبواب ومفاتيح. لكنَّ ذلك لم يمنع محمود درويش من استعادة رمز غرناطة، وإسقاطه على مفاوضات أوسلو فوجَّه إلى عرفات، الرجل الذي رافقه وأحبَّه، هجاءً سافراً عندما قال له، من وراء قناع الواقعة الغرناطية، "لماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار؟".
ذكرى أبي عبد الله الصغير تحضر، هذه الأيام، في ذهن بعضهم في بريطانيا (ربما في ذهني فقط!) مع الاستحقاقات الكبيرة، التي ستترتب على احتمال انفصال اسكتلندا عن التاج البريطاني. هذا ما ستظهره نتائج الاستفتاء، الذي يجري في بلاد الجبال والنفط والويسكي و"الكيلت" (التنورة الرجالية)، فإن جاءت نتيجة الاستفتاء لصالح الانفصال، نكون أمام واقع بريطاني جديد، بل واقع أوروبي جديد، يصعب التكهن بمآلاته على الطموحات الاستقلالية لقوميات صغيرة منضوية تحت لواء (أو ملحقة عنوة بـ) دول كبيرة، كالباسك مثلاً، في إسبانيا.
غداً سنعرف ما إذا كانت المملكة ستخرج من المملكة. فالمعروف أن اسكتلندا كانت مملكة، على قدر من الاستقلال الممكن تلك الأيام، إلى أن ألحقها الانكليز، القومية الكبرى والأقوى شوكة، بالتاج الانكليزي عام 1707، وبذلك تكون "الوحدة" الانكليزية الاسكتلندية قد استمرت نحو ثلاثة قرون تحت علم الاتحاد البريطاني "يونيون جاك". هذا العلم، الذي يعبر عن "اتحاد" ثلاثة شعوب في بلد واحد، قد لا نراه مرفرفاً على المباني الحكومية البريطانية، عندما ينفصل الاسكتلنديون، الذين يشكلون نحو 10% من سكان بريطانيا، ويملكون نحو ثلث أراضيها.
غداً قد تكون هناك بلاد قديمة جديدة تدعى اسكتلندا، وعلم جديد وانضواء، على الأغلب، تحت لواء الاتحاد الأوروبي، واعتماد عملته، إن رفضت لندن بقاء اسكتلندا في إطار الجنيه الإسترليني. كما ستكون هناك محاولات يائسة لإحياء اللغة الاسكتلندية (غيلك)، التي لا تتكلمها إلا قلة قليلة من الاسكتلنديين، وبعث بعض مظاهر الهوية القومية، ولكن ليس إلى حد التطرف القومي العنصري.
لست مختصا بالاقتصاد، لأعرف مدى تأثير انفصال اسكتلندا عن التاج البريطاني، لكن، من المؤكد أنه سيشكل صدمة اجتماعية وثقافية في الجزيرة، التي تداخلت شعوبها وثقافاتها وأعرافها واقتصادياتها (بالطبع) بعضها ببعض، على مدى قرون من الصراعات والدماء والتزاوج والوحدة والتعبير الرسمي، والشعبي، باللغة الانكليزية. سيصعب تصوّر بريطانيا من دون اسكتلندا، وسيصعب أكثر أن تُرْسَم حدود بين البلدين، وتقام نقاط عبور رسمية، بعدما كانت الجزيرة بلداً واحداً مفتوحاً لجميع سكانها، بصرف النظر عن اللافتات التي تشير إلى أن هنا اسكتلندا وهنا ويلز. ولكن، ليست هناك، للمفارقة، لافتة تشير إلى أن هنا انجلترا!
***
من الصعب، اليوم، والاسكتنلديون يتوجهون إلى صناديق الاستفتاء، معرفة أيّة كفّة سترجح. فآخر استطلاع للرأي أعطى معسكر "الانفصاليين" أرجحيّة ضئيلة، هبَّت، في إثرها القوى والأحزاب والشخصيات المؤيدة لبقاء الوحدة، كما لو أنها لُسعت، إلى إقامة فعاليات فنية وثقافية وسياسية واجتماعية، تحثُّ الذين يحق لهم الإدلاء بأصواتهم، في الاستفتاء، على التصويت على البقاء في المملكة المتحدة. كأنَّ هؤلاء، وعلى رأسهم 10 داوننغ ستريت، مقرّ الحكومة البريطانية، كانوا ينامون، كما يقول المصريون، في العسل. وهنا، يحضر شبح أبي عبد الله الصغير، الذي كان عليه أن يكون آخر ملك عربي في شبه الجزيرة الإيبيرية. هذا، على الأقل، ما أوحاه إليّ عنوانُ صحيفة بريطانية، كتب أنَّ ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني الحالي، يسلّم مفتاح المملكة، وعنوان آخر أنه قد يكون آخر رئيس وزراء لبريطانيا كما عرفناها.
وبما أن بريطانيا لها ما لها في مدونتنا السياسية والوطنية والوجدانية، ليس أقلّه منح فلسطين لليهود، فإن السؤال عن تأثير انفصال اسكتلندا عربيّاً جائز، بل جائز جداً، إذ هذا سؤال طرحته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، ولكن عن تأثير ذلك على اليهود!
في كل المناسبات، التي خرجت فيها تظاهرات في شوارع المدن البريطانية، خاصة بالأوضاع العربية، كان الاسكتلنديون والإيرلنديون حاضرين، سواء عن تعاطفٍ معنا، وهذا ما أرجّحه، أو نكاية بالإدارة البريطانية، التي يعتبرونها انكليزية.. بل يراها بعضهم محتلة بلادهم، مثل إسرائيل. وليس هناك فضل للجالية العربية الكبيرة، الكسول والمتصارعة طوائف ومناطق، أي فضل يُذكر، في تبلور مشاعر التعاطف بين الاسكتلنديين حيال القضايا العربية، باستثناء جهود طلبة عرب وفلسطينيين. فهي مشاعر "المظلومين" إزاء المظلومين، و"المحتلة" بلادهم مع المحتلة بلادهم، فهذا شعور إنساني قبل أن يتحوَّل إلى تعبير سياسي. هذه هي الفطرة السليمة للبشر، من دون تسيـّسٍ أو أدلجة.
اليوم خمر يا ديفيد كاميرون.
وغداً أمر.