على هامش الانتخابات التونسيّة

26 ديسمبر 2014

احتفالات في تونس بعد فوز السبسي بالانتخابات الرئاسية (22ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
كنت قد كتبت مبكراً عن طبيعة المراحل الانتقالية بعد الثورات، وتأسيس النظم السياسية الجديدة، وأشرت، آنذاك، إلى أن الانتخابات في مراحل الانتقال ما بعد الثورات غيرها بعد انتخابات في عملية التحول والانتقال الديمقراطي؛ إذ تختلط، في هذه المرحلة، أشواق الثورة وتحقيق أهدافها والحفاظ على مكتسباتها والتوقف عند شعاراتها، إلا أنه، في الوقت نفسه، تبدو متطلبات الانتخابات التي تقيم مؤسسات من المسائل الضرورية لإقامة كيان جديد، يحدث تغييراً وإصلاحاً جذرياً في مؤسسات الدولة التي قامت على قاعدة من الاستبداد، وانتشر في أرجائها الفساد؛ هذه المفارقة في المراحل الانتقالية تجعلنا بصدد شأن دقيق يتعلق بإدارتها، خصوصاً حينما يتربّص المتربصون من الثورة المضادة لمواجهة أي تغيير في المعادلة القائمة التي كونت مصالح ممتدة، وتحالفات مصلحية وطبقية عميقة.

نحن، إذن، أمام مشهد انتخابي يحاول تسديد فاتورة المسار الديمقراطي، بمتطلباته من الاستحقاقات الدستورية والاستحقاقات الانتخابية البرلمانية، وكذلك الاستحقاقات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية، إلا أنه، في الوقت نفسه، تتقاطع الثورات في وجودها وأهدافها وتدافعها؛ ولا بأس عند البحث في أهداف الثورة، وتأمين مكتسباتها، أن يكون التدافع كذلك على مساحات السلطة والحكم والإدارة، ومن ثم تتقاطع ثورات ثلاث، ثورة التوقعات عند عموم الناس؛ تتعلق بأشواق التغيير وإصلاح حالهم ومعاشهم، وثورة حقيقية، تجعل من هذه الآمال التي تتعلق بالشعوب، فضلاً عن شوق الشباب إلى مستقبل سياسي يليق بهم، تكون محط اهتمامها، بل قد يرى بعضهم أن تأمين مطالب الناس لا يتم إلا عبر تأمين المسار السياسي في هذا المقام، إلا أن الثورة لا تقوم في فراغ، ولا تستمر في فضاء، بل هي ثارت على أوضاع ومصالح تراكمت في شبكيتها، وامتدت في دائرة المستفيدين منها، هؤلاء قد ينحنون أمام طوفان الثورات، فيتوارون حيناً، ولكن الأمر لا يلبث إلا أن يمكّنوا لأنفسهم من جديد في ثورة مضادة، تدافع عن هذه المصالح التي كونتها شبكات الفساد والاستبداد.

تجعل هذه التقاطعات جميعاً من المراحل الانتقالية، بعد الثورات، تختلف اختلافاً جذرياً عن مراحل الانتقال والتحول الديمقراطي. ومن هنا، يبدو التوقف عند مسألة الانتخابات ضمن هذه المراحل الانتقالية ودروسها أمراً ضرورياً في الثورات العربية التي أرى أن فصولها لم تُنجز بشكل نهائي، وأن نتائج هذه الثورات ومحصلاتها لم تتوقف آثاراً ومآلاً.

في ضوء ذلك، فإن النظر إلى التجارب الانتخابية بعد الثورات التي أفرزت تياراً إسلامياً لعب دور المعارضة، وواجه سياسات المطاردة، فترة طويلة من الزمن، ليجد في مناخ الثورات مساحات لا بأس بها لفعله، وتمكين أفكاره ورؤاه، إلا أنه، في حقيقة الأمر، لم يكونوا، غالباً، على أهبة الاستعداد لتولي السلطة، أو تسيير البلاد، أو تدبير معاش الناس والعباد، وربما يكون هذا من المسائل الأساسية، في ما يتعلق بطريقة إعداد الكوادر التي غالباً ما تقوم هذه التكوينات بالخلط الشديد بين الكيانات الدعوية وأدواتها، وبين الكيانات السياسية ومتطلباتها، وانخداع بعضهم بأن هذه التنظيمات ذات الصبغة الدعوية قد تملك بعض الكوادر المهنية، فتخلط خلطاً شديداً بين الكوادر، الدعوي والمهني والسياسي، بل أبعد من ذلك قد لا يميّزون بين الكوادر السياسية التي تقوم بدور معارض والكوادر السياسية الصالحة لتدبير معاش الناس وتسيير أمور البلاد.
يبدو لي أن هذا الدرس الذي يتعلق بقواعد الإعداد والاستعداد لهذه المهمة الكبرى، ضمن مراحل انتقالية، تكون مؤسسات الدولة فيها قد طُبِّعت تطبيعاً على مسارات الاستبداد وشبكية الفساد أمر يحتاج إلى مزيد من تدبر وتوقف ودراسة، تترافق مع عملية الإصلاح الجذرية التي تفرضها الثورات الحقيقية على أرض الواقع، ذلك أن الفشل في إدارة البلاد، عند الوصول إلى سدة الحكم وأجهزة الإدارة، في هذه الأثناء، إنما يشكل مسوغاً لقوى التآمر من الثورة المضادة ومساحات الغضب من جماهير الناس، فيحدث أمراً غريباً، فبعد أن ولدت الثورة الحقيقية "ثورة التوقعات"، إذا بهذه تُستغل من خلال الثورة المضادة بإجهاض الثورة الحقيقية.
ومن هنا، لا بد أن نقر أن الخبرة التونسية، أياً كانت المآلات التي آلت إليها، قد حملت بعض النجاحات في عبور بعض فترات المراحل الانتقالية، بإدارة تعتمد على فطنة النخبة وحيوية مجتمعاتها المدنية. لكنها، على الرغم من ذلك، لم تستطع النخب الإسلامية أن تجعل من السياسي في خدمة هموم الناس، ومتطلبات معاشهم وتيسير حصولهم على حاجياتهم وسد ضروراتهم، ومن ثم وجب علينا أن نؤكد أن الخبرة التونسية التي أتت بالنخبة العلمانية خالصة إلى سدة الحكم بعد الانتخابات، بحيث ستشكل الحكومة، بعدما حققت الأغلبية في البرلمان، فضلاً عن فوزها بكرسي الرئاسة، فصار هذا المثلث مسؤولاً مسؤولية مباشرة، وشبه كاملة، عن مستقبل إدارة العملية السياسية في تونس، في الفترة المقبلة، ضمن اختبار قاسٍ.
فإذا كانت الفترة الانتقالية الأولى قد غلب عليها المزاج الإسلامي، مع أوجه القصور التي طالت إدارته السلطة والحكم، فإن الصفحة الثانية تأتي بالعلمانيين، لتضعهم أمام اختبار حقيقي، اختبار الثورة، خصوصاً أنهم يجمعون بين ظهرانيهم مَن ينتمي كاملاً إلى نظام بائد قامت عليه الثورة، وقد يشكلون خميرة الثورة المضادة للثورة الحقيقية أشواقها وآمالها ومكتسباتها. أما الاختبار الثاني، فهو اختبار معاش الناس الذي سيكون الاختبار الفيصل للرضا من المحكومين حيال حكامهم، يستوي في ذلك الإسلامي والعلماني، وكشف الحساب قادم لهذه الطبعة الجديدة، وهي في تونس "طبعة صندوق الانتخابات"، بينما هذه الطبعة اتسمت بالقبح في مصر، حينما استندت إلى "صناديق الذخيرة"، مروراً إلى صناديق انتخابات في مسرحيات هزلية متتالية، فهل يمكن أن ينجح هؤلاء في اختبارات الثورة ومتطلبات الناس؟ نظن أن هذا هو المحك الذي يجب أن نتوقف عنده من دروس ثورات الربيع العربي، ومن درس الانتخابات التونسية خصوصاً، الانتخابات بعد الثورات هي "انتخابات الحساب العسير"، فمَن يستطيع أن ينجح في هذا الاختبار المركّب والمعقّد؟

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".