2024... حديث البدايات

2024... حديث البدايات

04 يناير 2024
+ الخط -

لا يُقصَد بحديث البدايات هنا الكلمات المألوفة في مطلع كل سنة جديدة، أحاديث التهنئة والأمل أو أحاديث المراجعة واستخلاص الدروس والعِبر، فنحن نعيش، منذ أشهر، تحت ضغط أجواء الحرب العدوانية التي يمارسها الكيان الصهيوني بمعيّة حلفائه على الشعب الفلسطيني، حيث أقام في غزّة محرقة كبيرة، مُستهدفاً إبادة كل مظاهر الحياة بجنونٍ لم يعرفه تاريخ الحروب طوال القرن الماضي... ومنذ ما يقرب من ثلاثة أشهر، وهو يقوم بتجريب أسلحةٍ عديدة على شعبٍ أعزل، يحرق ويهدّم ويقتل، من أجل خطّة الإبادة التي أعلن عنها، ويتصوّر أن بإمكان قوته أن تحققها!

نلتقط حديث البدايات ونسمعه، رغم خُفوته وانقطاعه، فهو يصل متقطعاً، تًقَطُّع الأصوات عندما تكون أفعالاً ومواقف قادرة على ترتيب مسارات وخيارات سياسية وحربية، ومن دون تردّد ولا تراجع. الحديث هنا لا يتكرّر، ولا يعيد ما تَمّ النطق به، حديث التصميم والعزم، ومواجهة مآلات الحاضر بالشجاعة المطلوبة والمنتظرة.. وهو حديثٌ يستوعب درجةً من الجرأة تفوق المقادير المرسومة حسابياً، ففي التاريخ والسياسة، تخضع العمليات الحسابية الدقيقة لمقتضيات الجرأة والإقدام، وتكون مطالبةً، أحياناً، بكسر القواعد المألوفة واستبدالها بقواعد جديدة.

يتّجه الحديث الذي نتصوّر عن البدايات للتفكير في جرائم الكيان الصهيوني، وجرائم الغرب الذي لا يتردّد في استعادة لغة الصهاينة في أثناء حديثه بروح انتقامية عن عودة المقاومة الفلسطينية إلى خيار مواجهة جبروته ومقاومة غطرسته، وهو يواصل استئناسه بأحلامه في استكمال احتلال الأرض الفلسطينية، بالضم والاستيطان والعدوان.

 اختلطت في "طوفان الأقصى" أحاديث النهايات بالبدايات، كما تختلط اليوم، في الحرب المشتعلة في فلسطين المحتلة، أحاديثُ البدايات والنهايات

تذكّرتُ، وأنا أفكّر في "طوفان الأقصى"، وقد رفع مجدّداً راية المقاومة والتحرير، تذكّرتُ أنني كتبت مقالة نُشِرت في العربي الجديد يوم 5 يناير/ كانون الثاني 2023، تمنّيتُ فيها أن تكون السنة التي ودّعنا سنة لمواجهة التطبيع، وعبّرت فيها عن أملٍ يرتبط بصور التراجع والجمود، التي آلت إليها القضية الفلسطينية والأحوال العربية. كما كنتُ أعبّر عن رغبةٍ تسمح بمواجهة الغطرسة الصهيونية، وقد تمادت في مواصلة استيطان الأرض الفلسطينية، وتحاول، في الوقت نفسه، اختراق مجتمعات عربية عديدة. وقد ساهم ما فجّره الطوفان بالصوت والصورة وبالصمت والكلمات، في تحقيق بعض ما كنتُ أتطلّع إليه.

كتبتُ، في المقالة المذكورة، أننا نحتضن الأيام الأولى من السنة الجديدة 2023، ونتطلع إلى أن تكون سنة مواجهة معاهدات التطبيع، التي منحت إسرائيل أدواتٍ لمواصلة تصفية المشروع الوطني الفلسطيني.. ولم أكن أعلم ماذا ستحمل السنة الجديدة في دواليب سيرورتها. ومرّت أشهرها الأولى حاملة جملة من الوقائع والأحداث، المرتبطة بسياقات التطوّر والتحوّل، كما تحدُث في التاريخ. كنتُ أحلم فقط بأن تكون سنةً تعود فيها المقاومة الفلسطينية، بالصورة التي تكون فيها قادرة على إعادة بناء خيارات التحرير الفلسطينية، وملاءمتها مع المستجدّات الحاصلة في عالمنا. كنت أتطلّع إلى عودة المقاومة، القادرة على تجاوز مختلف التراجعات والخيانات والانقسامات والأخطاء، التي حصلت في تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني. بحكم إيماني بأن أغلب الضربات الموجعة، التي لحقت القضية الفلسطينية منذ عقود، لن توقف مشروع التحرّر والتحرير الفلسطيني، عن مواصلة أفعال مقاومة الاستعمار الاستيطاني، وكنتُ أدرك صعوبة الفعل الذي كنت أتطلّع إليه، إلا أنني لم أفكّر يوماً في استحالته.

لم يكن هدير المياه المنبعث من باطن الأرض، ومن مختلف جهاتها، في معركة طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، حديث بدايات المقاومة الفلسطينية العائدة. لم يكن يتحدّث اللغة المعتادة. كان صخبه وشكل اكتساحه اليابسة، ومن يقف عليها، يعبّر عن جوانب مهمّة من خلاصات تجارب فلسطينية عديدة، وأخرى حصلت قبلها أو عاصرتها في جغرافياتٍ أخرى في العالم. اختلطت في "طوفان الأقصى" أحاديث النهايات بالبدايات، كما تختلط اليوم، في الحرب المشتعلة في فلسطين المحتلة، أحاديثُ البدايات والنهايات، فقد تواصلت، بعد صاعقة الطوفان معارك قوية في قطاع غزّة، وهي تشمل اليوم مجموع أرض فلسطين المحتلة، بل إن أصداءها تملأ العالم أجمع، ونفترض أنه ستكون لنتائجها أحاديث أخرى.

لا يزال الشعب الفلسطيني يصنع ملامح تحرّره التاريخي وسماته، يغذِّي آمال التحرير، وأفق المشروع الوطني الفلسطيني

لن أتحدّث لغة البدايات المألوفة في زمن حَمَلَتنا فيه المقاومة العائدة إلى أفقٍ آخر في التاريخ كنا نتطلّع إليه، ولا نعرف كيف ومتى سيحلّ بأرضنا.. وقد انتبهنا يوم هجوم الطوفان إلى أن الكيان الصهيوني أصيب برجّة عنيفة أفقدته التوازن، وألحقت به وبحلفائه ومخطّطاتهم العدوانية المشتركة كثيراً من الاهتزاز، فلم يعد يستطيع لا الوقوف ولا النظر.. بدأ يُرَدِّد كلمة واحدة، إبادة الفلسطينيين.. أقام محرقةً كُبرى، وبدأ في قصف المدن والمخيّمات، فتحوّلت غزّة إلى مقبرة.. تسلّح بالشر المطلق، واكتشف أن مدبّري الطوفان وأبطاله يملكون من الصمود والعزيمة ما يؤهّلهم لمقاومةٍ طَويلةِ النَّفس، وقادرةٍ على إعادة الروح إلى المشروع الوطني الفلسطيني، الذي اعتقد الصهاينة بإمكانية محوِه وإبادته.

تمتزج، في حديثنا اليوم عن البدايات، جملة من المواقف والأحاسيس المتناقضة. إن جنون المحرقة والمقبرة التي نصب الكيان الصهيوني في غزّة، ومختلف صور الهذيان الصادر عن الناطقين باسم خلية الحرب، التي أطلقت، منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر، في المدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية حرباً انتقامية عمياء، تُشعرنا بعمق ما أصابه بفعل طوفان الأقصى. كما أن إبداع فعل الطوفان في زمن تصاعد فيه قهر الصهيونية الشعب الفلسطيني، وقد أصبح سجين إجراءات اتفاق مبادئ الحكم الذاتي الْمُعَطَّلَة، وسجين انقساماته، فأصيب بِتَصَلُّبٍ أوقفه عن مواصلة بناء ما يؤهّل مشروعه الوطني لمبادرات التحرّر والتحرير، الأمر الذي حَوَّل فعل الطوفان الجارف إلى لحظة إبداع فعليةٍ وصانعةٍ لعودة مقاومةٍ قادرةٍ على تركيب مكاسب سياسية تاريخية مباشرة.. مكاسب تتمثل في رَدِّ الاعتبار السياسي للقضية الفلسطينية، ثم كَسْر أوهام الصهاينة وإصابتهم بداء فقدان التوازن والنظر.

يحملنا حديث البدايات في حركة المقاومة الطوفانية، التي تُعَدّ خلاصة تاريخ متواصل من المقاومات، إلى تفكيك أسطورة التطبيع الهادفة إلى دمج الكيان الصهيوني في المحيط العربي.. إنها تكشف أمام العالم أن الشعب الفلسطيني لا يزال يصنع ملامح تحرّره التاريخي وسماته، إنه يغذِّي آمال التحرير، وأفق المشروع الوطني الفلسطيني. أما الخطابات الإسرائيلية عن السلام والتطبيع والاستقرار وصفقة القرن، فهي مجرّد حكايات تَنْسُجُها لتمرير ما يُعَزِّز شوكتها في أرض فلسطين، ويعزِّز حُلمها التوراتي "بأرض الميعاد".

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".