24 أكتوبر 2024
مسألة الرأي العام في تونس
تكشف ردود الأفعال التي يبديها الجمهور في تونس على الأحداث اليومية عن ملامح تشكل رأيٍ عام لا يُستهان به، قادر على التأثير، وأحيانا التغيير. وإذا كان من الطبيعي أن يكون الرأي العام مؤثرا في الدول ذات التجربة الديمقراطية العريقة، فإن متابعة ما يجري من نقاشات وسجالات على مواقع التواصل في تونس تشي بظهور قوةٍ ضاغطةٍ، قوامها النقد الشعبي، وإبداء الآراء خارج السياق الرسمي والمعتاد للمواقف السائدة.
عاشت تونس طوال فترة الاستبداد، وككل الأنظمة الشمولية، تغييبا فعليا للرأي العام، فلم تكن السلطات الرسمية تأبه للتوجهات الشعبية، وتراهن على عاملين أساسيين للتحكم في الوجدان الشعبي، أحدهما قوة البوليس، حيث يخشى المواطن التعبير عن آرائه ومواقفه، حيث يمكن أن يتحول مجرد مقال أو انتقاد للسلطات الرسمية إلى تهمةٍ تؤدي بصاحبها إلى غياهب السجون، ولنا في تجربة الشاب المدوّن المرحوم زهير اليحياوي نموذجا، حيث خضع للملاحقة والسجن من أجل مدونةٍ عبّر فيها عن آرائه، على الرغم من أنها كانت تتم من خلال اسم مستعار. أما العامل الثاني الذي راهن عليه النظام في تدجين التوجهات العامة للناس، فهو الإعلام، حيث لم تكن توجد صحافة حرة، أو أدوات للتواصل، غير التي تُطبع في مطابع السلطان، أو يُؤشر عليها قلم الرقيب بالموافقة. ومن هنا، لم تكن لعامة الناس قدرة على التعبير أو الانتقاد، دع عنك أن يكونوا قادرين على التأثير ودفع صاحب السلطة إلى التراجع عن مواقفه.
ويمكن انطلاقا من هذين العاملين تفسير أسباب اندلاع الثورة التونسية، ذلك أن نظام بن علي حينها تعامل بقبضة حديدية مع الرأي العام، في تفاعله مع قضية محمد البوعزيزي، ودفع
وسائل إعلامه إلى تجاهل الحدث، وما ترتب عنه، ولم يكن قادرا على مجاراة المخيال الشعبي القادر على إعادة نسج الأحداث بأشكالٍ مختلفة، في ظل غياب وسائل إعلام حيادية وموثوقة. ظل نظام بن علي، وككل الأنظمة الشمولية، يستخدم القنوات التلفزيونية الرسمية، لتوجيه وعي الناس قسرا، وتقديم الرسائل التي تتوافق مع توجهات نظام الحكم، من دون أن ينتبه لأثر التطورات الجديدة في مجال الإعلام، من خلال ظهور الفضائيات (وهنا نشير إلى الدور الكبير الذي لعبته قناة الجزيرة في تطوير الوعي العام وتغطية الأحداث التونسية)، والأهم هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي التي مثلت بالفعل ميدان "هايد بارك" افتراضي، تمكّن من خلاله الرأي العام من التواصل والتعبير عن توجهاته، ورفضه السياسات الرسمية.
بعد الثورة، تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى سلاح خطير في يد الجمهور، من أجل التأثير في الأحداث. والجميع يذكر الحملة التي شنها رواد الموقع على أول وزير خارجية تونسي بعد ثورة يناير 2011، والتي أدت إلى إقالته. واليوم أصبح في وسع عموم الناس طرح مظالمهم، وكشف تجاوزات السلطة في حقهم، بشكل جعل القوى الأمنية والمسؤولين الحكوميين يتحسبون كثيرا لردود فعل الجمهور الذي يتابع التصريحات والمواقف يومياً، فقد اضطرت الحكومة إلى الاعتراف بالجريمة التي اقترفها جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) بحق المهندس محمد الزواري، بعد أن حاولت وسائل الإعلام الرسمية، في البداية، تصوير الحدث وكأنه جريمة حق عام، غير أن ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي تمكّنوا من كشف جوانب كثيرة أفضت إلى تعامل السلطة السياسية مع الحدث بالشكل الذي يستحق. وأكثر من هذا، استطاع الرأي العام، ومن خلال أدواته الفردية في التواصل، أن يجبر مذيعة قناة تلفزيونية على الاعتذار، بعد ترويجها صورة مزيفة، نسبتها زورا إلى قناة الجزيرة.
غير أن هذا كله لا ينفي أن للقوة حدودها، فقد تحولت المواقع الاجتماعية نفسها إلى مصدر
للشائعات والتشويه وقلب الحقائق، وشن الحملات الموجهة ضد وجوه سياسية بعينها. وقد شهدت سنوات حكم الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، تصاعد ظهور صفحات مدفوعة الثمن على "فيسبوك"، ركّزت كل جهودها على شيطنة فترة حكمه، وتصوير الثورة التونسية بوصفها سبب كل المآسي والكوارث، حتى الطبيعية منها، بشكل يذكّرنا بما يسميه بعضهم "اللجان الإلكترونية"، غير أن هذا كله لا ينفي تشكل رأي عام ضاغط ومؤثر، يتميز أحيانا بمواقف زئبقية، تجعله ينتقل من المدح إلى القدح، من دون أدنى شعور بالتناقض، وهذا طبيعي، إذا علمنا أن الرأي العام لا يتشكل من وحدة صماء، ولا يخضع لتوجيه علوي، بقدر ما هو محكوم أحيانا بمواقف مزاجية، على الرغم من أنه لا يمكن نفي وجود ثوابت عامة، تغلب على توجهات الرأي العام التونسي الفاعل في الساحات الافتراضية، والتي تتمثل أساسا في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وتبني القضايا الحقوقية، مثل الرفض الواضح للاستبداد الدموي في سورية، بالإضافة إلى التمسك بالتوجهات العامة التي تحكم الهوية الوطنية، المرتبطة أساسا بالقيم الدينية، من دون تطرّف. وهذه أسس عامة في الحكم على القضايا الإنسانية. أما على المستوى الوطني، فإن نقد أداء الوزراء وكشف الفساد الإداري وفضح الممارسات غير القانونية لبعض الأفراد النافذين تشكل ميسما عاما، يحكم توجهات الجمهور في الغالب الأعم.
تشكلت الملامح الأولى للرأي العام في تونس، من خلال عاملين مترابطين، أولهما تحول ديمقراطي، منح الفرصة للجميع أن يعبر من دون خوف. وثانيهما الثورة التكنولوجية التي لعبت دور المساعد على نجاح الثورة السياسية، وهي اليوم تقوم بالدور المركزي في صناعة توجهات عامة للجمهور، قادرة على قلب المشهد إلى الحد الذي يمكن معه القول إننا بالفعل نشهد هجرة لمفهوم الممارسة السياسية، من الحقل الحزبي بصورته المعتادة إلى المجال الافتراضي، حيث يصبح الفرد هو القادر على تحديد توجهاته الخاصة، واختيار الكيان السياسي الذي ينحاز إليه انتخابيا.
عاشت تونس طوال فترة الاستبداد، وككل الأنظمة الشمولية، تغييبا فعليا للرأي العام، فلم تكن السلطات الرسمية تأبه للتوجهات الشعبية، وتراهن على عاملين أساسيين للتحكم في الوجدان الشعبي، أحدهما قوة البوليس، حيث يخشى المواطن التعبير عن آرائه ومواقفه، حيث يمكن أن يتحول مجرد مقال أو انتقاد للسلطات الرسمية إلى تهمةٍ تؤدي بصاحبها إلى غياهب السجون، ولنا في تجربة الشاب المدوّن المرحوم زهير اليحياوي نموذجا، حيث خضع للملاحقة والسجن من أجل مدونةٍ عبّر فيها عن آرائه، على الرغم من أنها كانت تتم من خلال اسم مستعار. أما العامل الثاني الذي راهن عليه النظام في تدجين التوجهات العامة للناس، فهو الإعلام، حيث لم تكن توجد صحافة حرة، أو أدوات للتواصل، غير التي تُطبع في مطابع السلطان، أو يُؤشر عليها قلم الرقيب بالموافقة. ومن هنا، لم تكن لعامة الناس قدرة على التعبير أو الانتقاد، دع عنك أن يكونوا قادرين على التأثير ودفع صاحب السلطة إلى التراجع عن مواقفه.
ويمكن انطلاقا من هذين العاملين تفسير أسباب اندلاع الثورة التونسية، ذلك أن نظام بن علي حينها تعامل بقبضة حديدية مع الرأي العام، في تفاعله مع قضية محمد البوعزيزي، ودفع
بعد الثورة، تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى سلاح خطير في يد الجمهور، من أجل التأثير في الأحداث. والجميع يذكر الحملة التي شنها رواد الموقع على أول وزير خارجية تونسي بعد ثورة يناير 2011، والتي أدت إلى إقالته. واليوم أصبح في وسع عموم الناس طرح مظالمهم، وكشف تجاوزات السلطة في حقهم، بشكل جعل القوى الأمنية والمسؤولين الحكوميين يتحسبون كثيرا لردود فعل الجمهور الذي يتابع التصريحات والمواقف يومياً، فقد اضطرت الحكومة إلى الاعتراف بالجريمة التي اقترفها جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) بحق المهندس محمد الزواري، بعد أن حاولت وسائل الإعلام الرسمية، في البداية، تصوير الحدث وكأنه جريمة حق عام، غير أن ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي تمكّنوا من كشف جوانب كثيرة أفضت إلى تعامل السلطة السياسية مع الحدث بالشكل الذي يستحق. وأكثر من هذا، استطاع الرأي العام، ومن خلال أدواته الفردية في التواصل، أن يجبر مذيعة قناة تلفزيونية على الاعتذار، بعد ترويجها صورة مزيفة، نسبتها زورا إلى قناة الجزيرة.
غير أن هذا كله لا ينفي أن للقوة حدودها، فقد تحولت المواقع الاجتماعية نفسها إلى مصدر
تشكلت الملامح الأولى للرأي العام في تونس، من خلال عاملين مترابطين، أولهما تحول ديمقراطي، منح الفرصة للجميع أن يعبر من دون خوف. وثانيهما الثورة التكنولوجية التي لعبت دور المساعد على نجاح الثورة السياسية، وهي اليوم تقوم بالدور المركزي في صناعة توجهات عامة للجمهور، قادرة على قلب المشهد إلى الحد الذي يمكن معه القول إننا بالفعل نشهد هجرة لمفهوم الممارسة السياسية، من الحقل الحزبي بصورته المعتادة إلى المجال الافتراضي، حيث يصبح الفرد هو القادر على تحديد توجهاته الخاصة، واختيار الكيان السياسي الذي ينحاز إليه انتخابيا.