"تويتر" الغذامي.. حرية ومسؤولية
يستفتح عبدالله الغذامي كتابه الجديد؛ "ثقافة تويتر.. حرية التعبير أو مسؤولية التعبير"، ببيتين من شعرٍ موغل في زمنه المسمى الجاهلي، للبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا / عصافير من هذا الأنام المسحّر
نحل بلاداً كلها حل قبلنا / ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير
ومن الواضح أن مفردة "عصافير" في سياقها الدلالي ضمن البيتين هي ما شجعت الغذامي على تلك الافتتاحية التي تربط بين الزمنين القديم والحديث بفتنة القول، كلغة تعبيرية، سواء أجاءت شعراً أم نثراً، شفاهةً أم كتابة. وفي هذه الإشارة الافتتاحية الصغيرة، يتابع الناقد الذي تحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، في السنوات الأخيرة، برشاقة عالية ومهارة كبيرة، مسيرته في تفكيك خطاب "تويتر" وفحصه وتفتيشه، ونفض مكوناته الصغيرة والكبيرة، ثم إعادة تركيبه وسد فجواته البادية لجمهوره الكبير على تنوعه وتعدديته واختلافاته الثقافية والاجتماعية والعمرية، وبما يناسبها جميعاً. وفي سبيل ذلك، لم يتورع الغذامي الذي عرف بسعة صدره في تعامله مع بعض متابعي حسابه الشخصي في "تويتر"، في أي جنوح لغوي أو تفلت أخلاقي لهم، عن اللجوء إلى كثيرٍ من مصطحات "تويتر" المغرقة في شعبيتها وعاميتها وسذاجتها أحياناً. ولهذا، لم يجد ضيراً في التنظير لمصطلحاتٍ عرفت بأنها شوارعية، سادت في فضاء "تويتر"، وفي خارجه أيضاً، منها "الهياط" و"قصف الجبهة"، في الوقت الذي قوّض فيه خطاب اللغوي والمفكر العالمي الشهير، نعوم تشومسكي، عن "تويتر" بمنتهى السلاسة والعفوية التي لم تتناقض مع العمق والجدية والجرأة المعرفية والطرافة أيضاً. فقد أعاد انتقاد تشومسكي القاسي "تويتر" إلى محاولة اللغوي الأكاديمي الشهير جر "تويتر" إلى محرابه، حيث صار "يرسل تغريداتٍ هي مقتبسات من بحوثه العلمية والثقافية، وظل يريد من "تويتر" أن تسير معه وتأتيه طائعة ومتتلمذة، لكنها تأبت عليه، لأنه لم يستلهم روح التغيّر ووظيفة الوسيلة المختلفة، وأصر على أن يعامل "تويتر"، وكأنها ورقة بحثية أو فصل من كتاب أو مناقشة تخصصية، وحين أعياه ذلك، راح ينتقد خطاب تويتر"!
ومن الواضح تماماً السخرية التي ساقها الغذامي، برقي لغوي أخّاذ، من تشومسكي وأسلوبه في تلقي ثقافة "تويتر"، بعيداً عن حرية التعبير، وعن مسؤوليته أيضاً، وهما الخياران اللذان وضعهما الغذامي في عنوان كتابه على الغلاف الأول، بشكل متساوٍ فيما بينهما، خصوصاً أنه لم يختتمهما بعلامة استفهام، لكنه على الغلاف الأخير غير الأداة الفاصلة بين الخيارين من "أو" إلى "أم"، فأصبح عنوان فقرة الغلاف الأخير؛ "حرية التعبير أم مسؤولية التعبير"، وبلا علامة استفهامٍ تحول المعنى من الدمج المتساوي بين الخيارين إلى ضرورة اختيار أحدهما من الكاتب أو المتلقي! ويشرح الغذامي ذلك اللبس المتوهم بالقول إنها "ثنائية وليست خياراً، وفي تويتر يصبح المرء هو المالك المطلق لحريته، ولكنه سيكتشف تلقائياً أن غيره يملك حريةً مماثلة. وهنا تتصارع الحريات، ولن يستقيم أمر الخطاب التويتري إلا بتوافق ركني المعنى الفلسفي الأولى لمفهوم الحرية، أي حرية التعبير مرتبطة بمسؤولية التعبير".
قرأت الكتاب (160 صفحة)، الصادر قبل أشهر قليلة، عن المركز الثقافي العربي، في يوم واحد، ساعدني على ذلك توزعه على ستة فصول رشيقة في تقسيماتها الداخلية، وبإيقاع يشبه إيقاع "تويتر" السريع. وقد نوه الكاتب إلى ذلك، وهو يتحدث عن روح "تويتر" التي تقمصها، وهو يجعل كتابه على مباحث مركّزة في ترقيم متوال. وحسنا فعل، ففي ذلك الشكل الذي كتب به هذا الكتاب إشارة أولية على الرسالة التي يحملها، باعتباره كما أظن، أول كتاب عربي في بابه، عن أحد أشهر مواقع التواصل الاجتماعي، في عصرٍ كاد أن يتنازل لها عن كل مكوناته لتنسقها كما تشاء.
أحيي، ختاماً، عبدالله الغذامي المناضل في ساحة "تويتر" بدأبٍ وحيويةٍ وأناقةٍ ونبلٍ، كما يليق بزمنه الموشوم بهذا كله.