نعم لحوار استراتيجي عاجل مع موسكو

نعم لحوار استراتيجي عاجل مع موسكو

05 فبراير 2016
+ الخط -
يتردّد حديث عن حوارٍ استراتيجي خليجي - روسي مزمع في الربيع المقبل. وهو يأتي بعد سلسلة من الزيارات المتبادلة بين قادة خليجيين ومسؤولين روس، وتوقيع اتفاقيات تعاون عديدة، على الرغم مما يظهر على السطح، وما يعتمل تحته من خلافات بين الجانبين، زادت وتيرتها في العامين الأخيرين، وذلك مع التعاون العسكري المضطرد بين موسكو وطهران، ومع وقوف موسكو إلى صف طهران في ملفها النووي، وما يتواتر من أحاديث إيرانية عن تفاهماتٍ استراتيجيةٍ لبناء ما يسمى "نظام عالمي جديد"، تشكل طهران وموسكو قطباً له في مواجهة الولايات المتحدة، ويعتمد التدخلات العسكرية، كأحد أساليب بسط النفوذ السياسي.
أبدت دول الخليج استعدادها لتطوير مختلف أشكال العلاقات مع موسكو، على الرغم من الخلافات الكبيرة، وعلى أمل أن تنعكس أوجه التعاون إيجاباً على نظرة موسكو إلى المنطقة، بحيث تقيم علاقاتٍ متوازنةً بالفعل مع مكونات المنطقة. ومن المفارقات أن العلاقات الخليجية مع موسكو السوفييتية كانت، على الرغم من التباعد الأيديولوجي وأجواء الحرب الباردة واستقطاباتها، أكثر وضوحاً وأقل إثارةً للمحاذير من العلاقات التي تربط حالياً الخليج بـ"الاتحاد الروسي". ولعل السبب الرئيس في ذلك تضخم الطموحات القومية لروسيا الجديدة، وجنوحها إلى ما يشبه عسكرة سياستها الخارجية، بالتزامن مع انكفاء أميركي بهذا الخصوص، وهو ما تبدّى في السنوات الأخيرة مع انفجار مشكلة أوكرانيا وسورية. فموسكو لا تكتفي برفض التغييرات التي تعبر عنها إرادة شعبية هنا أو هناك، لكنها تتدخل عسكرياً لقمع هذه التغيرات، على الرغم من أنها تصف "نفسها" بأنها نظام ديمقراطي. ومع التباعد بين طبيعة النظامين، الإيراني والروسي، فإن موسكو ترى في طهران حليفاً لها، يسهل لها التمدد خارج الحدود باسم مقاومة النفوذ الغربي الأوروبي والأميركي. وفي جميع الحالات من وراء ظهر الشعوب المعنية، فإن إرادة الأوكرانيين والسوريين لا تعني شيئاً (في الحسابات "الاستراتيجية" والعسكرية!) وقد تذرعت موسكو بأن الغرب تدخل في ليبيا لإسقاط حليفها الدكتاتور معمر القذافي، علماً أن هذا التدخل لم يتم إلا بعد انتفاضة شعبية واسعة، وبالتساوق مع هذه الإرادة. وفي سياق موجة الربيع العربي، ولو لم يتم تدخل في ليبيا في العام 2011، لربما كان القذافي يواصل ارتكاب مجازر يومية، حتى يوم الناس هذا.
يتناسى المسؤولون الروس أن وصولهم إلى الحكم منذ العام 1990 تم في أعقاب انتفاضةٍ
شعبيةٍ في بلدهم ضد تأميم الحياة السياسية، وضد امتلاك حزب واحد كل مقدرات روسيا، وتمتعه بسلطة مطلقة. لنتخيّل لو أن بلداً، مثل كوريا الشمالية، تدخل ضد إرادة الروس آنذاك لقمع انتفاضتهم، ودعم الحزب الحاكم، كما يفعل الإيرانيون والروس منذ سنوات في سورية! لقد كان للروس كما لبقية شعوب أوروبا الشرقية ربيعها السياسي الذي سمح بالتغيير السلمي، وما كان ممكناً وصول الرئيس، فلاديمير بوتين، والوزير سيرغي لافروف، إلى الحكم، لولا التعيير الشامل في بلدهم.. لولا البيروسترويكا الشهيرة. لكن المسؤولين الروس الحاليين لا يكتمون اعتراضهم على الربيع العربي، وفق افتراضٍ بأنه قد يزعزع نفوذهم في المنطقة، وهو أمر لا يعدو أن يكون افتراضاً، وليس له على أرض الواقع ما يسنده. وقد وصل الأمر بموسكو إلى السماح للنظام في دمشق باستخدام كل الأسلحة الروسية الثقيلة ضد شعبه، من دون قيد أو شرط من المُورّد، ما أمكن معه تدمير مدن بكاملها وحواضر تاريخية، مثل حمص وحماة وحلب، بطائرات الميغ والسوخوي وصواريخ غراد وسام. وفي أوكرانيا، تم استحداث معارضة فورية للتغيير، تتزوّد بأسلحةٍ روسيةٍ، وبدعم روسي مطلق، وذلك بعد السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم المتنازع عليها.
وفي الأثناء، ومع التدخلات الإيرانية المكشوفة في المنطقة، والتي ازدادت وتيرتها، واتسع نطاقها في السنوات العشر الأخيرة، فإن موسكو زادت من توثيق علاقاتها، في هذه الآونة، مع طهران، مع ما لذلك من انعكاساتٍ غير إيجابية على المنطقة. ولدرجة أن موسكو أصبحت تقيم علاقات علنية مع أحزاب ذات ارتباط إيراني، مثل حزب الله في لبنان، ولا شك أنه أمر غريب أن تقيم دولة كبرى علاقاتٍ مع حزب مسلح، توجه له اتهامات بالمشاركة في نزاعات أهلية عربية. ويغدو الأمر أكثر غرابة، حين تلتقي الإرادة الإقليمية والدولية على شق طريق للحل السياسي في سورية، فلا تجد موسكو في ذلك (القرار2254) سوى فرصة للمشاركة المباشرة في حل عسكري، يستهدف المدنيين والمعارضة المعتدلة، فيما يتم وضع تنظيم داعش الإرهابي في نهاية قائمة الأهداف الفعلية.
وقد جرى استغلال المفاوضات الأخيرة في جنيف لتصعيد عسكري روسي فقط، ولإفشال الحل السياسي في مهده، حتى لو كان الثمن مضاعفة المحنة السورية، وتجديد موجات النازحين واللاجئين. ويحرك إفشال الحل السياسي والتنكيل المتمادي بالمدنيين السوريين من تقرير مصيرهم، ومن رؤية نهاية لمأساتهم التي بدأت وتعاظمت، نتيجة لجوء النظام إلى حل عسكري، في مواجهة مطالب شعبية بالإصلاح والتغيير. ولا يفهم المرء كيف يمكن لهذه السياسة الروسية المعادية بعمقٍ وشراسةٍ للسوريين، أن تؤسس لعلاقات صداقةٍ وتعاونٍ على المديين المتوسط والطويل. وفي واقع الأمر، فإن إغلاق الطريق أمام الحل السياسي، إذ يعمق الكارثة السورية وحرب الإبادة على شعب هذا البلد، فإنه يهدد بنزاعاتٍ مستقبليةٍ تنعكس على دول المنطقة وشعوبها، مع تعزيز النفوذ الإيراني على أنقاض البلد والشعب، فهل هذا ما يريده الأصدقاء الروس؟!.
على مدى عقود طويلة، رأى العرب في موسكو صديقاً متفهماً لهم أمام الصلف الإسرائيلي، ها هي موسكو الجديدة تقيم تفاهماتٍ واسعةً مع تل أبيب بخصوص سورية بالذات، وتضع التسوية العادلة لصراع الشرق الأوسط في آخر اهتماماتها، مع أنه يسجل لموسكو موقفٍ متميز، ظهر أخيراً بدعوتها الروس اليهود للعودة إلى وطنهم الأم، وهو ما من شأنه أن يُقصي مواطنين روس يهود عن مواجهة الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال الإسرائيلي. فالعالم العربي بحاجة لإنهاء ظاهرة الاحتلال هذه، وإنهاء كل مظاهر الهيمنة، وليس استبدال هيمنة غربية بأخرى إيرانية وروسية مثلا! علماً أن المطامح الإيرانية غير المشروعة في المنطقة هي التي شرعت الأبواب لاتفاقيات تعاون مع الغرب، من دون أن تقتصر هذه الاتفاقيات على الغرب، إذ شملت موسكو وبكين وعواصم أخرى.
تثير السياسة الروسية في المنطقة درجة ملحوظة من القلق، بينما تبدو السياسة الصينية، مثلاً، أكثر رصانة وأشد احتراماً للشعوب. ومع ذلك، لا غنى عن علاقاتٍ خليجيةٍ وعربيةٍ مع موسكو على قاعدة الاحترام المتبادل لحقوق الشعوب والدول ومصالحهما، وتفادي عسكرة السياسة الخارجية.