لغة الانتقام

لغة الانتقام

05 فبراير 2016

لوحة للفنان ياسر صافي

+ الخط -
كثرت، في الآونة الأخيرة، لغة الانتقام لدى الكبار والصغار والسلطات والأنظمة بشكل حاد. هل هناك خلل عقلي ما في بدايات هذه الألفية الثالثة أوردتنا إلى هذا المنعطف. أعرف أن مصائب التاريخ راقدة في بطون التاريخ، وأحياناً تتناسل بشكلٍ ما في فتراتٍ ما، حينما تستدعيها الأنظمة، لخوفها، أو في أوقات خريفها وعجزها، أو لفشلها، أو لتعثرها في تحقيق ضروريات شعوبها، لكن الملاحظ أن هذا انتقام يقوده الجميع، أنظمة وأفراد وعصابات ومليشيات مجهزة ودول أيضاً تدّعي التحضر، فما زالت هند تشتاق لكبد حمزة، في الكتب، وفي الشارع أيضاً، وفي المصنع، وفي المظاهرة وإن كانت سلميّة، وإن لم تستطع، فتحرّض عليه، سواء أكانت مذيعة أم حتى رئيساً، فما بالك بالمواطن؟
هل صار الانتقام لغةً متداولة، لغة حتى للكسب السياسي، ولإرباك الخصوم، لغةً تتجلى في الحرائق التي لا نعرف مصادرها، للمصانع والفنادق والبنايات والملاعب. هل الانتقام هو لغة المأزومين، أو لغة من لا يملكون لغةً إلا هي، أم لأننا فقدنا المرح الحقيقي والدعابة الحقيقية، كما كنا نراها في كتب الأدب، في القرنين، الثالث والرابع الهجري، في ألف ليلة وليلة، وفي تراجم الأدباء وسِيَرِهم المرحة في "الأغاني" و"مروج الذهب" و"طرائف الأدباء" و"صغار الصعاليك"؟ لماذا أحيانا تكون بطون الكتب أكثر رحمة وتسامحاً من الشارع والمصنع والحزب والنقابة، بما فيها حتى الموسيقية؟.
في مصر، رأينا شيخاً مجللاً كله بالبياض، يقف خطيباً ومحمِّساً آلاف الجنرالات، ويقول محرِّضا على الانتقام، بأعلى صوته، وبأعلى ترخيمة فيه وحماسة وقيادة: (اضرب في المليان)، ومرة أخرى يصف خصومه بأنهم "كلاب النار".
صحيح أن امرأة من بطون الكتب أكلت كبد حمزة. ولكن، أيضاً في فتح مكة، قال النبي للجميع: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). ما معنى أن يقول شيخ: (اضرب في المليان) وهو وسط الجنود. لماذا يستدعي النظام أهل الدين، في تبرير العنف على مائدته، ولا يستدعيهم للتسامح والغفران؟ ولماذا يستدعى علماء النفس، لإثبات المرض للخصم، كالدكتور أحمد عكاشة (في حالة الرئيس الشرعي محمد مرسي)، ولا يستدعي العالم نفسه فيمن أخذ السلطة بالدبابة والقتل؟ أليس من يقتل من أجل سلطة هو أيضاً مرتبكاً ومريضاً، ويحتاج العلاج والتأهيل لاحترام الملايين التي خرجت واختارت رئيسها، بل وخرجت في خمسة استحقاقات انتخابية؟ أليس هذا فجوراً؟ أهذا يفخر به علم النفس أيضاً؟ أليس هذا هو تربية ورعاية للانتقام أيضا؟
واضح أن علم النفس لا يحلل نفسية مطلِق الرصاص، لكنه تخصص فقط في مرض الضحية وتفسير زبيبة الصلاة بأنها مرض فقط، أما القاتل فهو يحرم على مشرط علم النفس والطب النفسي، حتى يتحول إلى موسوليني آخر، أو إلى هتلر، وما دام ذلك هو فعل ضابط، فهذا شرف للعلم، أما المساكين والفقراء، فلهم الصدمات الكهربائية والعزل.
وعن نفسي، لا أحب الانتقام أبداً، حتى وإن كنت قوياً (للعلم، أكره القوة)، وإذا كانت شيمة النظام، أي نظام، تنحو ناحية الانتقام من شابٍ أو إنسان، أو جماعةٍ، أو عرقية، أو دين صغير، أو حتى ملّة منقرضة، أو طائفة، على الفور اعتبر ذلك النظام عيالياً وواطياً ووضيعاً أيضا، حتى وإن استعان بأغنية أم كلثوم "بناة الأهرام" في تمرير انتقامه، أما الصلابة في الحق، فهي غير الانتقام تماماً، وغير التشفّي أيضاً، حتى وإنْ تم ما بينك وبين نفسك، ففيه أذىً ما، لروحك على الأقل، هذا إن كانت روحك مازالت تعمل.