السكرتيرة

السكرتيرة

05 فبراير 2016

من السذاجة النظر لهذه الإعلانات بحسن نية

+ الخط -
من البديهي والمتعارف عليه في علم الإدارة أن أي جهة توظيف جادة وحقيقية سوف تتوخى، من حيث المبدأ، التقيد بالأصول المهنية المرعية، وتصر على توفر الخبرة شرطاً أساسياً في عملية التوظيف، بل ويتم تحديد الراتب، في العادة، بحسب سنوات الخبرة المعتمدة. وقد تتساهل بعض الجهات في تطبيق هذا الشرط بحرفيته في حالة الخريجات الجديدات، إذا ارتأت، بعد إجراء أكثر من مقابلة تقييم، أن المتقدمة للوظيفة قابلة للتعلم والتدرب والتطور، وكذلك تتحلى شخصيتها بالذكاء والديناميكية وسرعة البديهة والقدرة على التصرف، والقدرة على اكتساب الخبرات والمعارف، إضافة إلى حصولها على شهادة في اختصاص السكرتاريا، فتمنحها فرصةً لإثبات نفسها والتقدم في المهنة، وإتقان مهاراتها الكثيرة. وهذا قرار إداري ذكي وصائب، من شأنه إطلاق الطاقات واستقطاب الكفاءات الواعدة واستثمارها لمصلحة العمل بالنتيجة.
من هنا، يبدو ضرباً من السذاجة افتراض حسن النيات، أو المهنية، عند التعاطي مع جهاتٍ تنشر إعلاناتٍ غامضةً مثيرة للريبة، مفادها أنه مطلوب للعمل في مكتبٍ فتاة ذات مظهر لائق، والخبرة غير ضرورية! لأن ما يحدث، في أحيانٍ كثيرة، يؤكد على حالات بشعة من استغلال الفقر والحاجة الماسة إلى الوظيفة، ما يثير الهلع فعلاً. ولطالما تعرضت فتيات صغيرات لأسوا أشكال الامتهان في مكاتب تشبه الدكاكين، من حيث بدائيتها، فتجد الواحدة منهن نفسها قد تحولت، ضمن الوصف الوظيفي الجائر، من طالبةٍ إلى خادمة غير معلنةٍ، مطلوب منها تنظيف المكتب، بمطبخه ومرافقه الصحية، وإعداد القهوة وتقديمها مع ابتسامة للزبائن، إضافة إلى تلقى المكالمات الهاتفية، والقيام بكل أعمال السكرتاريا، من طباعة وغيرها، مقابل راتب ضئيل مخجل، لا يتناسب، بأي حال، مع الجهد المبذول وساعات العمل الطويلة غير الخاضعة لأي رقابة رسمية.
ليس ذلك فحسب، بل كثيراً ما يتعرضن للتحرش الجنسي بأشكاله كافة، إذ يفترض بعض المعتوهين والمرضى، من أصحاب العمل، أن تلك الصغيرات متاحات لسوء المعاملة وقلة الاحترام، بمجرد وجودهن في مقر عملهن. وأظن أن السينما ورسوم الكاريكاتير والنكات المتداولة حول السكرتيرة سهلة المنال. ما أدى إلى تكريس صورة نمطية لمهنة السكرتيرة، موضوعاً جنسياً قابلاً للتطاول. ولا يخلو الأمر، بطبيعة الحال، من نماذج لصغيراتٍ وقعن في فخ الحاجة، والطمع بالكسب السهل السريع، فمارسن سلوكياتٍ مشينةً غير لائقة، أكدت الصورة النمطية الظالمة في العقل الجمعي المستعد لإطلاق أحكام سريعة مسبقة، حين أقدمن على تنازلاتٍ فادحةٍ، ورضين بالانخراط في علاقاتٍ غير سوية، سعياً إلى الخلاص من عبء الفقر والحاجة وذل السؤال، ما ساهم في تعزيز الصورة السلبية الدونية لهذه الوظيفة الحيوية، وكذلك تعزيز نظرة عامة مغلوطة لجميع العاملات في هذا الحقل، ممن يعانين من الالتباس وسوء الفهم، وفي ذلك إجحاف كبير. ومع ضرورة التركيز على تلك النماذج المهنية المحترفة لفتياتٍ مجتهداتٍ عاملاتٍ بكل احتراف ومهنية، باعتبارهن العماد لكبريات المؤسسات والشركات، بفضل تفانيهن وجديتهن. وعلينا كمجتمعات الاعتزاز دائماً، بمنجزهن، وحضورهن الواثق والحضاري والمتقدم علمياً وتقنياً في زمنٍ أصبح فيه الحصول على وظيفة سكرتيرية تنفيذية إنجازاً مهنياً يستحق التهنئة. من هنا، لا بد من التمني على الفتيات عدم الاستعجال والاستسهال، مهما بلغت الظروف المعيشية من صعوبة. من الأهمية بمكان التسلح بالعلم والمعرفة والانتباه، وتوخي أقصى درجات الحيطة والحذر، للحيلولة دون التورط في أوضاع وظيفية مشبوهة، ليست في جوهرها أكثر من صيغةٍ مخففةٍ لفكرة الدعارة. ولن يحصّن الفتاه الذاهبة لتوها إلى سوق العمل من الوقوع في شرك الاستغلال سوى درجة احترامها ذاتها ومقدار كبريائها وعزة نفسها وزهدها بأسباب الكسب المريب، مهما بلغ بريقها ومدى وعيها بأن الثمن المقترح دائماً هو امتهان كرامة الروح قبل الجسد.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.