08 نوفمبر 2024
رائحة لا يشمّها السياسيون اللبنانيون
يتظاهر المسؤولون الحكوميون والسياسيون اللبنانيون، وكأن الحملة التي خرجت ضد الطبقة السياسية المتحكّمة برقاب الشعب اللبناني، وسميت حملة "طلعت ريحتكم"، لا تعنيهم، ويتصرفون وكأنها غير موجّهة ضدهم، أو أن الرائحة الكريهة التي عمّت لبنان بسبب النفايات ليست مسؤوليتهم. هم الذين ظلوا، طوال الفترة التي تلت توقيع اتفاق الطائف، يمانعون بناء دولة المؤسسات التي تكفل حقوق المواطنين، وتتحمّل مسؤولياتها تجاه قضايا البلاد في التنمية والدفاع. بل أمعنوا في تقاسم المصالح، وغابوا عن إدارة البلاد، حتى جاء هذا التحرك الذي جعلهم يخرجون مذعورين، ليشخّصوا مشكلات البلاد، لعلّهم بذلك يفرغونه من مضامينه، ويستمرون جاثمين في كراسيهم.
ولم يصل بهم الأمر إلى هذه الحال سوى لأن التحرك المطلبي الحالي يختلف عن تحركات مطلبية كثيرة سبقته، باستقلاله عن كل التيارات السياسية، وعبور المشاركين فيه لطوائفهم (وهنا صعوبة إخضاعه للتجاذبات)، وبشموليته وبحجمه، علاوة على مسبباته. فقد وجد اللبنانيون، هذه الأيام، أنفسهم يتامى، تركوا لمواجهة أزمات يجدر بحكومتهم مواجهتها، لكنها لا تفعل. وفي شوارعهم، وصلت القمامة التي لطّخت سمعة لبنان، الجميل بطبيعته والمنعش بعليل هوائه، إلى حد سيوصل البلاد إلى كارثة حقيقية، فتنتشر الأمراض، لتسبّب جائحةً، لا يمكن لأحد أن يوقفها.
وكان لافتاً أن الطبقة السياسية التي خرجت الاحتجاجات للتخلّص منها وقعت في فخ تأييد الاحتجاجات ومواجهتها ومهاجمتها في الوقت عينه. ثم (تذاكت)، وقررت دعوة أنصارها للمشاركة فيها، ليصبح الأمر شبيهاً بمهزلة قوامها أن الزعامات تدفع جمهورها للتظاهر ضدها. فمشاركتها لا تحمل سوى معنى واحد، هو الاستهانة بكرامة المحتجين الحقيقيين. فكيف لأمراء طوائف أن يخرجوا في تظاهرات محتجة على الفساد، ومطالبة بدولة مدنية ديمقراطية، تناقض دولة المحاصصة الطائفية الفاسدة التي أسّسوها وكرّسوها. وكيف لهم أن يطالبوا بحقوق الناس الاجتماعية، وبتأمين المياه والكهرباء، وتحسين الرواتب وبالضمان الصحي، وهم من منع هذه الحقوق عن الناس، وحرموهم تلك الحاجات.
وإذ كان لافتاً، وأحياناً مرفوضاً من المتظاهرين، مشاركة أعضاء من حزب الله بالتحرك، وهو الحزب الذي نأى بنفسه عن كل التحركات المطلبية التي شهدها لبنان من قبل، وقع حليفه ميشال عون، وهو من رموز تلك الطبقة السياسية، في الفخ. فقد وصل إلى حالة من الهستيريا، جعلته يتهم المتظاهرين بـ"سرقة شعارات تياره"، وطالبهم بإعادتها. كيف تتم إعادتها؟ ذلك ما لم يقله. وانتقدهم في مؤتمر صحافي، لأنهم "هاجموا الطبقة السياسية بأكملها، وعمّموا صفة الفساد على السياسيين كافة"، متناسياً أنه مساهم في منع انتخاب رئيس للجمهورية، إنْ لم يُنتَخَب هو نفسه رئيساً. لكنه، على الرغم من انتقاده المتظاهرين، دعا أنصاره، في حالة فريدة من التناقض، للتظاهر "من أجل المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد". وهو ما جرى، في الرابع من سبتمبر/ أيلول الجاري، في ساحة الشهداء في بيروت، فأحدث بذلك غرابة لا يمكن أن تجد لها توصيفاً في القواميس السياسية، أو في تاريخ الممارسة السياسية. فتياره يشارك في الحكومة وفي المجلس النيابي وفي الجيش الذين يشكلون بمجموعهم النظام السياسي المتّصف بالفساد، وقد خرج أنصاره للاحتجاج على فساد هذا النظام، وعلى الحرمان من الحقوق في ظله. وهي سابقة تسجّل لهذا التيار الذي خرج للتظاهر ضد نفسه. ويسجل أيضاً رفعه شعارات التيار وحزب الله، في وقت خلت الاحتجاجات من أي شعار حزبي، أو رايات سوى العلم اللبناني.
لكن، ما وقع فيه عون تلافاه وليد جنبلاط، حين اعترف أنه جزء من الطبقة السياسية التي أدانها المتظاهرون، معتبراً أن التحرك عبّر عن الأوجاع الحقيقية للمواطن اللبناني التي لا تمتلك الطبقة السياسية الإجابة عنها. ومثله فعل رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، الذي أيّد التحركات، ودعا المتظاهرين للمطالبة بدولة مدنية، كان هو أحد رموز المحاصصة الطائفية التي منعت قيامها. وأطلق مبادرة حوارية سماها "نداء استغاثة" للقوى السياسية، لمنع أو تأجيل "الانهيار الكبير" وللبدء في الحوار، الذي حدد له تاريخاً هو التاسع من هذا الشهر، وهو نداء لا يُستشفّ منه سوى أنه دعوة لهم لكي يسارعوا إلى إجهاض التحرك، وإنقاذ أنفسهم. وللسخرية، دعا بري المتظاهرين إلى المطالبة، أيضاً، بإلغاء الطائفية السياسية التي يعتبر المركز الذي يشغله منذ 23 عاماً ثمرة لها. ولا عجب أن يُجمع سادة الطبقة السياسية المعنية المتناحرون على هذه المبادرة، حيث سارعت كل الوجوه السياسية والطائفية السائدة للموافقة على المشاركة فيها.
ولعلّ تحسّس الرقبة الذي فعله السياسيون اللبنانيون وأمراء الطوائف، بعد هذه الاحتجاجات، استعادة لتحسسهم إياها أواسط تسعينيات القرن الماضي، حين أعلن الرئيس اللبناني الراحل، إلياس الهراوي، عن مشروع إلغاء الطائفية السياسية، وقال يومها بالحرف في إحدى كلماته: "سندكُّ حصون الطائفية". إلا أن أمراء الطوائف سرعان ما تناسوا خلافاتهم، فتشابكت أياديهم التي فرّقت أبناء البلد الواحد بين أهوائهم، واتفقوا على دك حصون الجمهورية التي تتجرأ على مراكزهم وامتيازاتهم، فتراجع الهراوي، وغاب المشروع عن التداول، وبقيت الطائفية السياسية تتحاصص البلاد.
إضافة إلى هجوم وجوه الطبقة السياسية على الحملة، بدأت بعض وسائل الإعلام الموزعة محاصصة بين رموز هذه الطبقة، بالتشهير بأعضاء الحملة، وتخوينهم، واصفةً تحركهم بالمؤامرة الخارجية. كما بدأ الكلام عن الممولين، على الرغم من إعلان أعضائها أنها تتلقى تبرعات من أناس عاديين، على أحد مواقع الإنترنت الذي يظهر الأسماء والأرقام. واعتبر المحتجون دعوة بري الحوارية مجرد فلكلور فارغ المعنى، بدأ منذ عام 2006 من دون نتائج. وقالت حركة "بدنا نحاسب" إن التحرك مستمر، على الرغم من الدعوة. وزاد آخرون أن الأزمة في لبنان أزمة نظام، وليست أزمات طارئة. وأعاد كثيرون التأكيد على أن الزعماء القيّمين على النظام إذا ما تناحروا كان الناس ضحايا حروب أهلية مستمرة، وإذا ما اتفقوا على التحاصص، أصبح الناس ضحايا الفقر والحرمان والتهميش.