الطفلُ القادمُ في أزمنةِ الموتى

07 سبتمبر 2015
+ الخط -
كان البحر رحيماً، وكانت ضواريه أكثر إنسانية على طري العود ذي الثلاث سنوات، فلم تلتهمه؛ وإنّما اقتنص الموت الطفل السوري عيلان على يد جلاده التي امتدت إليه بالرعب في عرض البحر فأغرقته. ليس مصادفة أن يموت هذا الطفل السوري معبّراً عن خيبة أخرى، تُضاف إلى خيبات الأمة العربية، وهو مولودٌ كحلم ثورات الربيع العربي الموؤودة، فيما يقارب عمره عمرها. 

مأساة العرب كبيرة والسخط أكبر، وكثرة النحيب هي ما تباعد بيننا وبين الفضائيات العربية بشكل نسبي، لا نلجأ إليها إلّا مضطرين، لالتقاط أخبار بطعم الدم من هنا وهناك. صورٌ كثيرة من خضم الحرب السورية والحروب المشتعلة في أنحاء أخرى من عالمنا العربي المنكوب تهزّ المشاعر، وتتدفق لها المآقي. صور الجرحى والقتلى والأطفال الذين يشقّ صراخهم عنان السماء، والنساء الثكلات اللائي ما وجدن غير الأرض لتحتوي انهيارهن وشكواهن. هذا كله، على الرغم من كثرته، وعلى الرغم من أنّ الإعلام، من حيث يدري ولا يدري، يلعب دوراً كبيراً في أن يجعل هذه الصور وأحداثها من ضمن وجبات الحياة العادية، وروتين يومي لا تُخطئه العين، حتى لو تعمدت الهروب من أمام الشاشات أجمعها.
نجد أخبارنا معقلنة بشكلٍ ما في بعض الفضائيات الأجنبية. رحتُ اليوم ودم الطفل الشهيد الغريق لم يبرد بعد، لأتلقى مزيداً من الضربات على الرأس. القنوات العربية كوكتيل من اليأس والبرامج التافهة، تنتظر فلترة التقارير الحية التي ترصدها الشبكات الإخبارية الأجنبية عن أسرة كاملة مسجاة على قضيب سكة حديد في النمسا، احتجاجاً على رحيل قطار الغرب دونهم، وعن قطار يمتلئ حتى يفيض مرتحلاً بأكباد رطبة من النمسا إلى ألمانيا، أليست هذه هي الرحمة التي أوصى بها رسولنا الكريم. وعن قادة الاتحاد الأوروبي يناقشون مأساتنا وويلاتنا وتغرورق عينا رئيس الاتحاد الذي ليس عربياً بالدموع، ونبكي معهم على حالنا.

انصبت الأنظار على أوروبا، وهي الوجهة التي قصدها هؤلاء اللاجئون، لأنّ هذه الوجهة هي التي اختارت تسليط الأضواء على أزمة ألقيناها في وجوههم. اختارت أوروبا أن تناقش، علناً، مأساة اللاجئين، ولم تسأل يوماً لماذا يضيق الوطن العربي بهؤلاء، ولم تقف عند لغز إدانتهم من العرب على عدم فتح أبوابهم كاملةً، وهم صائمون عن المبادرة نفسها. ولم يضيعوا الوقت في مهزلة الدفاع عن إنسانيتهم، وهي التهمة التي وجهها الأسد إلى أوروبا في مفارقة مريرة. لا نملك إلّا أن نقول إنّ عالمنا العربي مختلفٌ على الدوام، يُضام المواطن في بلاده، ويُباد بوحشية حكامه، ونجري لنطعن سيوف اتهامنا في ذلك الخارج، بحثاً عن الوجه الآخر للحقيقة.
تجسّد هذه الميلودراما السيكولوجية الاتهامية لدى حكامنا العرب، والتي تقدّم الاتهام بناءً على التعامل بالإحسان من الطرف الآخر، ويُبرَّر هذا النوع من التعامل بأنه ضعف.
ما يؤرقنا، فعلاً، أنّ القضية ليست قضية طفل واحد، أو مجموعة تصرّ على المضي في تحديها الصامت مسبقاً، وتجديفها المستمر في يمّ الإنسانية المتلاطم الأمواج، بِرهانه على شعار فلسفة الحياة: نعيش أو لا نعيش. وبهذه الرؤية، فإنّ هؤلاء اللاجئين كانوا، مثل كل المقهورين في عالمنا العربي، ممن يحلمون بملجأ تتم رحلتهم إليه على بساط سندباد، يطرحه لهم بعيداً عما يجري في أوطانهم؛ أما الآن فقد باتوا هم الأكثر شكّاً بين العالمين في تحقيق هذا الشعار الفلسفي، وقبله الحق وثمنه.
ليس عيلان وحده، وإنّما أطفال سورية كلهم، ممن وقعوا ضحايا الجرائم ضد إنسانيتهم، ليس بسبب أخطاء بشرية، كما يحاول كثيرون أن يبرّروا أفعالاً لا يمكن تبريرها، وإنّما بسبب الخطايا التي لا تُغتفر، والتمادي في الظلم. رحل عيلان منكفئاً على براءته، وحذاؤه في وجوهنا مباشرة، لكي نتجرّع طعم احتقارنا أنفسنا، فلم يلبث الصغير حتى تلتقي أعيننا بأعينه، كي لا يسجننا بنظراته إلى الأبد.
رصيد الآلام كثيف بهذا الفقد بالتقتيل والترويع والتشريد، وما يفاقم من هذا الأسى، وما يوصلنا إلى قمة البؤس حقّاً، أنّ هذه الآلام تنشب أظفارها في أطفالٍ، لا حول لهم ولا قوة. يستحق هذا الفعل الألم والحقد معاً. وشهيد الموج الأزرق حدّثنا عن معنى كبير، هو أن تجتمع الإنسانية على ألمه، وعلى اجتماع المختصمين والفرقاء الذين أضاعوا عليه فرصة أن تدركه سفينة نوح المبحرة بأحلام أطفال آخرين، علّهم يصلوا إلى شاطئ دنيا جديدة بأمان؛ بينما سلّم روحه لأبواب السموات؛ إلى حكيمٍ عادل، ماض ٍ في طريق الخلود، إلى عالم لا حرّ فيه ولا برَد. ترك خلفه أطفالاً غارقين في لا وطن مليء بالعذاب، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لو لم يكتب الشاعر السوداني الراحل، محمد الفيتوري، إلّا أبيات الحقّ هذه في زمن الزيف الممتد من أطفال فلسطين إلى أطفال سورية لكفاه:
ليس طفلاً ذلك القادم في أزمنة/ الموتى إلهىّ الإشارة/ ليس طفلاً وحجارة/ ليس بوقاً من نحاس ورمادٍ/ ليس طوقاً حول أعناق الطواويس محلّى بالسواد/ إنّه طقسٌ حضارة/ إنّه العصر يغطي عُريه في ظلّ موسيقى الحداد.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.