اللجوء إلى أوروبا وانعدام الأمل بحل الأزمة في سورية

13 سبتمبر 2015

لاجئون سوريون في محطة القطار في ميونيخ (6 سبتمبر/2015/الأناضول)

+ الخط -
ازدادت وتيرة هجرة السوريين الذين يعبرون البحر إلى أوروبا، طلبًا للجوء في الأشهر الأخيرة، وتوقعت الأمم المتحدة أن يصل عددهم إلى 850 ألف شخص في نهاية سنة 2015. وكانت موجات اللجوء خارج سورية قد بدأت منذ منتصف عام 2012، بعد انتقال الثورة السورية إلى طور العمل المسلح، واعتماد النظام سياسات العقاب الجماعي ضدّ السكان في المناطق والمدن الخارجة عن سيطرته. وتزايدت الوتيرة على نحوٍ مضطرد، مع قصف النظام العشوائي المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، ما زاد من إخفاقها في إدارة المناطق المحررة، وعجزها عن إيجاد مقومات البقاء الأساسيّة لسكانها، إضافةً إلى انتشار جماعات جهاديّة، سعت إلى فرض أفكارها وتصوراتها على المجتمعات المحلية، وارتكبت انتهاكات في حقها.

البدايات
اقتصرت الهجرة إلى أوروبا، في الفترة الأولى، على الأغنياء والميسورين، والناشطين المدنيين، وكذلك العاملين مع منظمات الإغاثة الدولية ومنظمات المجتمع المدني. وانضمّ السوريون المقيمون في أوروبا بهدف العمل، أو الدراسة، إلى هؤلاء، فحصلوا على وثائق لجوء رسمية، وأُدرجوا ضمن لوائح اللاجئين السوريين في أوروبا، في حين استقرت أغلبيّة اللاجئين في دول الجوار (تركيا، والأردن، ولبنان) في انتظار حلّ ينهي الأزمة، ويسمح بعودتهم إلى بلادهم. كما جذبت مصر، في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، عشرات آلاف السوريين من أبناء الطبقة الوسطى، نظرًا إلى عدّة أسباب؛ أبرزها مساواتهم بالمصريين في التعليم والصحة، وتسهيلات الإقامة، والسماح لهم بالعمل ونقل أنشطتهم التجارية والصناعية، وانخفاض تكلفة المعيشة في مصر مقارنةً بدول جوارٍ سورية. لذلك، لم تكن أوروبا وِجهةً رئيسةً بالنسبة إلى اللاجئين السوريين. وبحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، استقبلت دول الاتحاد الأوروبي، منذ اندلاع الأزمة حتى نهاية عام 2013، نحو 50 ألف لاجئ سوري، وهو عدد محدود مقارنة بدول اللجوء المجاورة.

ما لبث هذا العدد أن تضاعف في عام 2014؛ نتيجةً لعوامل مختلفة، في صدارتها إخفاق مؤتمر جنيف 2، وتراجع فرص الحلّ، وارتفاع مستويات العنف، وانتشار القتال في معظم الأراضي السورية، والتضييق على اللاجئين السوريين في مصر ولبنان والأردن. كما ساهم توسع تنظيم الدولة في المناطق الخاضعة لنفوذ المعارضة المسلحة، وسيطرته على مساحات واسعة من سورية، وكذلك هجومه على المناطق الكرديّة، في زيادة عدد اللاجئين إلى أوروبا؛ إذ فضّل آلاف السوريين من الأكراد من سكان منطقة عين العرب (كوباني) التوجه إلى ألمانيا مثلًا، لوجود جالية كردية كبيرة فيها، وعدم رغبتهم في العيش في مخيمات اللجوء التركيّة.
وقد برزت ألمانيا نقطة جذب للمهاجرين الجدُد، نتيجة التسهيلات المقدَّمة من الحكومة الألمانية في ما يتعلق بالإقامة، ولمِّ الشمل، والمعونة الاجتماعية، وكذلك تجاهلها "بصمة دبلن" التي تفرض على اللاجئ تقديم طلبه في أوّل دولة أوروبية يطأها، ما حفز سوريين كثيرين على اعتماد خيار اللجوء إليها. وقد أعلنت المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين أنّ عدد طلبات اللجوء المقدَّمة إلى دول الاتحاد الأوروبي من السوريين بلغ 210 آلاف طلبٍ من يوليو/تموز 2014، إلى يوليو/تموز 2015.
غير أنّ ما سلّط الأضواء على مسألة الهجرة، وأكسبها بعدًا سياسيًّا وأخلاقيًّا على الصعيد الدولي، أخيراً، التدفق غير المسبوق للاجئين السوريين؛ إذ قدرت المفوضية الأوروبية أعداد المهاجرين السوريين الواصلين إلى أوروبا بأكثر من 28 ألف مهاجر في يونيو/حزيران 2015، وأكثر من 32 ألف مهاجر في الشهر الذي تلاه، مع توقعات تضاعف الأرقام السابقة في إحصائيات شهر أغسطس/آب، وسبتمبر/أيلول 2015، لتستقبل أوروبا ما بين 4 آلاف و5 آلاف لاجئ سوري يوميًّا.


أسباب موجة اللجوء أخيراً
يُعزى الارتفاع الأخير في معدلات اللجوء إلى مجموعة عوامل، أهمها:
تضاؤل فرص الحل: شهدت الساحة السورية تطورات مهمةً في النصف الأول من عام 2015، فالانتصارات العسكرية التي حقّقتها المعارضة المسلحة استنزفت النظام، وأظهرت عجزه عن الدفاع عن مواقعه، ومناطق مؤيّديه. ونتيجةً لتوسع تنظيم الدولة في مناطق النظام، أيضًا، عاد الحديث عن ضرورة الحلّ السياسي للأزمة السورية، وشرعت القوى الدولية والإقليمية في جهد دبلوماسي كبير، مثّل بارقة أمل لحلّ الأزمة السورية، ولا سيما بعد تزايد الحديث عن تقارب سعودي – روسي؛ بهدف تجاوز خلافاتهما، ووضع بيان جنيف 1 موضع التنفيذ.
لكنّ تمسك موسكو ببقاء الأسد، وتنامي وتيرة الدعم العسكري المقدم له، بدَّدَا الآمال بقرب التوصّل إلى حلّ؛ ما دفع سوريين كثيرين باحثين عن استقرار دائم إلى ركوب البحر، بدلًا من انتظار حلّ لا يبدو أنه سيأتي قريبًا. ثمّ إنّ انسداد الأفق، وتوقّع استمرار الأزمة سنوات عديدةً، فضلًا عن حاجة سورية عقوداً حتى تتمكن من تجاوز آثار الأزمة وإعادة الإعمار، دفع حتى ببعض السوريين المقيمين في دول الخليج العربية إلى طلب اللجوء إلى أوروبا، بحثًا عن استقرار نهائي لهم ولأسرهم.
ظروف اللجوء القاسية: ألحقت سنوات الحرب الطويلة الضرر بحياة ملايين السوريين ومصالحهم. كما استنزف اللجوء مقدراتهم ومدّخراتهم، وأفقدهم فرص تحسين أوضاعهم الاقتصادية، أو تعليم أبنائهم. فدول اللجوء الرئيسة (ما عدا تركيا) تعاني مشكلات اقتصادية، واجتماعية، وتنتشر فيها البطالة، إضافةً إلى غلاء المعيشة فيها. وجاء خفْض الأمم المتحدة مساعداتها، ولا سيما في ما يتعلق بالصحة، ودعم التعليم، ليضاعف معاناتهم، ويعرضهم للعوز الشديد، ويهدّد مستقبل أبنائهم. وفي المقابل، شكّل ترحيب ألمانيا التي أعلنت نيتها استقبال 800 ألف لاجئ خلال عام 2015 حافزًا قويًا دفع كثيرين من طالبي اللجوء السوريين إلى إعادة النظر في خططهم المستقبلية، وشدّ الرحال إلى أوروبا، هربًا من أوضاع اللجوء القاسية.
اختلاف أوضاع تركيا: وفقًا لإحصائية المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تحتض تركيا 1.8 مليون لاجئ سوري؛ أي نحو 45% من إجمالي اللاجئين السوريين في الخارج المسجلين لدى الأمم المتحدة البالغ عددهم أكثر من 4 ملايين. وفي السنوات الأربع الماضية، كانت تركيا الوجهة المفضَّلة للاجئين والمهجّرين السوريين لأسباب عديدة؛ منها قربها الجغرافي، واقتصادها القوي، والحكومة الداعمة، وتوفر إمكان العودة، وسهولة التنقل من سورية وإليها. لكنّ الأوضاع تغيرت كثيرًا خلال الأشهر الماضية، إذ شدّدت الحكومة التركية إجراءاتها الأمنية، وأغلقت حدودها أمام الخارجين من سورية، بسبب التهديدات الأمنية في ولايتها الجنوبية.

من جهة أخرى، أثارت نتائج الانتخابات البرلمانية، ودخول تركيا مرحلةً من عدم الاستقرار السياسي والأمني قلق سوريين كثيرين، ودفعتهم إلى البحث عن بدائل، إذ يخشى هؤلاء إخفاق حزب العدالة والتنمية في الحصول على أغلبية في الانتخابات المبكرة المقبلة، تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا، واضطراره إلى تقديم تنازلات لأحزاب معارضة تناصب اللاجئين السوريين العداء، وتدعو إلى ترحيلهم، وإلى التحالف مع بشار الأسد في مواجهة "الإرهاب".
بناءً على ذلك، أضحت السواحل التركيّة، بالنسبة إلى المهاجرين السوريين، نقطة انطلاق رئيسة في اتجاه الجزر اليونانية القريبة، خصوصًا أنّ السلطات التركية أخذت تتوانى، في الآونة الأخيرة، في ملاحقة شبكات التهريب، وضبط مراكب المهاجرين، وكأنّ الأمر، في ما يبدو، توجهًا تركيًّا جديدًا لمعاقبة أوروبا، بتقاعسها في البحث عن حلّ للأزمة السورية، واكتفائها بموقف المتفرج على المعاناة الإنسانية، في ظلّ تحمّل دول الجوار، خصوصاً تركيا، أعباء اللجوء.
• المناخ الجغرافي الملائم: تكررت الأحداث المأساوية خلال شتاء 2015؛ إذ قضى مئات اللاجئين، ومعظمهم من السوريين، غرقًا في مياه البحر المتوسط من دون الوصول إلى إيطاليا أو اليونان، بسبب سوء الأحوال الجويّة. وعلى الرغم من أنّ حركة الهجرة لم تتوقف، فإنّ أعدادًا كثيرةً من المهاجرين، خصوصًا العائلات منها، فضّلت تأجيل رحلاتها البحرية إلى أشهر فصل الصيف.

التداعيات
يشكّل اللجوء إلى أوروبا بالنسبة إلى أغلبيّة المهجرين حلًّا لمعاناتهم المستمرّة منذ سنوات؛ إذ يُؤمّن لهم الوصول إليها الاستقرار المادي والنفسي، والتعليم، وفرص العمل، وغير ذلك من المنافع على الصعيد الفردي. وفي المقابل، تبرز آثار سلبية عديدة على المستوى الوطنيّ. فعلى خلاف دول اللجوء المجاورة أو الدول العربية الأخرى، تدمج الدول الأوروبية المهاجرين وتوطنهم، وتمنحهم جنسيتها بعد مضيّ فترة زمنية محددة، ما يعوق عودتهم مستقبلًا.
من أجل ذلك، من المرجح أن تفقد سورية، في حال استمرار وتيرة الهجرة على ما هي عليه أو زيادتها، مئات الآلاف من مواطنيها سنويًّا. وتعزّز تصريحات المسؤولين الغربيين، وبرامجهم الهادفة إلى تنظيم استقبال المهاجرين السوريين في السنوات الخمس المقبلة، مخاوفَ من وجود توجُّه غربي لإطالة عمر الأزمة، وحصرها في أحد جوانبها (اللجوء). فمن شأن ذلك أن يُحدث خللًا في التركيبة السكانية والديمغرافية لسورية، لا يقلّ أثره عن سياسات التجهير الممنهجة التي يتبعها النظام وحلفائه.

وتساهم الهجرة الحالية في اضمحلال الطبقة الوسطى في سورية؛ إذ تفيد عدّة دلائل بأنّ المهاجرين إلى أوروبا ليسوا من المعدمين داخل المخيمات أو الفقراء العاجزين عن تأمين تكاليف الهجرة المقدرة بنحو ثلاثة آلاف يورو للشخص، بل إنهم من أبناء الطبقة الوسطى الباحثين عن استقرار دائمٍ وأوضاع معيشية أفضل (منهم المثقفون، والجامعيون، والمهنيون، والحرفيين).
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى دراسة أجراها التلفزيون السويدي، متعلّقة بمستويات تعليم الوافدين حديثًا إلى السويد خلال عام 2014، استنادًا إلى إحصائيات مكتب العمل السويدي ومجلس الهجرة، فقد خلصت إلى أنّ اللاجئين السوريين هم الأكثر تعليمًا من بين اللاجئين الحاصلين على إقامة دائمة في هذا البلد، وأنّ 37 % منهم حاصل على شهادات جامعية، أو شهادات فوق الثانوية.
فضلًا عن ذلك، يُعدّ فقدان عنصر الشباب أحد أبرز الآثار السلبية للهجرة الحالية؛ لأنه عنصر ضروري ومهمّ في عمليّة إعادة الإعمار. ومن المرجح أن تخسر سورية، أيضًا، أعدادًا كبيرة من الجيل الجديد الذي سوف ينشأ في بلاد بعيدة على ثقافة مختلفة، تسلخه بالتدريج عن وطنه الأصليّ، وتغيّر اهتماماته وأولوياته.