13 نوفمبر 2024
موسكو ومفاتيح الحل في سورية
تدل مجمل التحركات السياسية الأخيرة بشأن المسألة السورية على بداية ظهور إجماع إقليمي ودولي على نقطتين جوهريتين، طالما كانتا محل خلاف في السنوات الأربع الماضية، وشكلتا عقبتين كؤودين في وجه الحل. الأولى، طبيعة الدور الروسي وحجمه في الأزمة السورية. والثانية، ضرورة إيجاد حل لعقدة بقاء الرئيس بشار الأسد في سدة الحكم. اذ طالما شكّل الدور الروسي، في رأي جزء لا يستهان به من حلفاء الثورة السورية، على الأقل، جزءاً من المشكلة، بعد أن تعاملت موسكو مع المسألة السورية باعتبارها "مادة" لإعادة تأكيد مكانتها الدولية، وورقة وظفتها في استراتيجية المواجهة مع الغرب، ومن منطلق انتقامي أحياناً، خصوصاً بعد التدخل الغربي في ليبيا، واتضاح قيام إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما بخداعها في إطلاق مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، فيما كانت تحاول، في حقيقة الأمر، الحصول على مساعدة موسكو لضبط الوضع في أفغانستان، تمهيداً للخروج لا أكثر، في حين أنها استمرت في تبني سياسات الإدارة الجمهورية السابقة، لجهة عزل روسيا ومحاصرتها. بناء عليه، تبنت موسكو مواقف النظام السوري الذي لم تكن تربطها به علاقات ود كبيرة، وقامت بتأمين غطاء سياسي ودبلوماسي له، خصوصاً في مجلس الأمن، ما شجعه على الذهاب بعيداً في تبني سياسات عنف غير مسبوقة في معالجة الأزمة. لا بل إن النظام تلقى ما يشبه نصائح روسية باستخدام "خيار غروزني" للقضاء على الثورة.
أخذ هذا الدور يتحول، وإن ببطء، في الأشهر الأخيرة، بفعل عوامل عدة: أولها، اتضاح عجز النظام، على الرغم من كل الدعم الخارجي الذي تلقاه، في حسم المعركة لصالحه عسكرياً، ما حدا روسيا إلى إعادة تموضع تدريجي، ينقلها من خانة الخصم إلى خانة الوسيط في الأزمة، تحسباً لأي تطورات غير متوقعة من جهة، وتعبيراً عن حالة إحباط من عدم تجاوب النظام مع مساعيها إلى بناء حد أدنى من التوافق نحو الحل، مع أقرب أطراف المعارضة السورية إليها، من جهة أخرى.
تمثل العامل الثاني في صعود تنظيم الدولة الإسلامية، وسيطرته على أجزاء شاسعة من العراق والشام، وتحول سورية إلى "مركز جذب" (Magnate) لجهاديي العالم، وجزء كبير منهم من الأقاليم الروسية المسلمة (الشيشان، داغستان، أنغوشيا) أو من جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة. أما العامل الثالث، فهو محاولة موسكو الاستفادة من ظروف الافتراق النسبي في المصالح بين واشنطن والرياض، والاستثمار في فجوة الثقة المتنامية بينهما، في مسعى إلى إعادة إصلاح علاقاتها بدول الخليج، والتي أفسدتها المسألة السورية، وألحقت أضراراً اقتصادية وسياسية بالغة بروسيا.
ضعف النظام وتنامي نفوذ الجماعات الإسلامية، خصوصاً تنظيم الدولة، قاد، من جهة أخرى، إلى حصول تقارب روسي-أميركي، رأى في صعود التنظيم وتمدده تهديداً خطيراً لمصالحه في المنطقة، لكنه اختلف على دور النظام في مواجهته، ففي حين رأت روسيا في نظام الرئيس بشار الأسد شريكاً في الحرب ضد تنظيم الدولة وعموم الجهاديين، كان الموقف الأميركي ينوس، بحسب الضغوط الإقليمية، بين اعتبار النظام السوري جزءاً من المشكلة إلى اعتباره جزءاً من الحل. الجديد الذي ظهر في الحراك السياسي الأخير محاولة واشنطن بلورة موقف مشترك مع موسكو، يتجاوز عقدة النظام، وينحو تجاه اعتبار بقاء الأسد، وليس نظامه، عقبة في وجه احتواء تنظيم الدولة والقضاء عليه. وقد طغى هذا الموضوع، بحسب مصادر عديدة، على محادثات وزير الخارجية الأميركي في موسكو في 11 يونيو/حزيران الماضي، والتي جاءت على خلفية سيطرة فصائل المعارضة، ذات التوجهات الإسلامية في معظمها، على أغلب محافظة أدلب، وسيطرة تنظيم الدولة على تدمر واقترابه من تهديد مدن كبرى بأكملها، مثل حمص وحماة ودمشق وحتى حلب، الأمر الذي دق نواقيس الخطر في الكرملين والبيت الأبيض على السواء.
اكتسب الدفع باتجاه ترجمة هذه المقاربة زخماً إضافياً في قمة الدول الصناعية السبع الكبرى التي عقدت مطلع يونيو/ حزيران الجاري في بافاريا الألمانية، حيث ناقش قادة العالم الرأسمالي، على الرغم من توتر العلاقات مع روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، مقترحاً لإبعاد الرئيس بشار الأسد إلى روسيا، جزءاً من تفاهم غربي-روسي لدمج المعارضة "المعتدلة"، مع ما تبقى من قوات النظام لمواجهة تنظيم الدولة على الأرض. وبحسب صحيفة الإندبندنت البريطانية، استأثرت مواجهة داعش بالجزء الأكبر من الاجتماع الذي عقده الرئيس أوباما مع رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، على هامش القمة. وفي التفاصيل، بدا هذا الاجتماع شديد الشبه باجتماع النورماندي الشهير في يونيو/حزيران 2004 بين الرئيسين السابقين، الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك، واتفقا فيه على إخراج سورية من لبنان. اجتماع أوباما-كاميرون يهدف، على ما يبدو، إلى إخراج الأسد من سورية، وبمساعدة روسيا التي تتجه واشنطن وحلفاؤها الغربيون إلى الإقرار بمركزية دورها، وشرعية مصالحها في سورية.
وجاءت الدعوة التي بدت حينها "مستغربة"، وأطلقها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في لقائه وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، في موسكو، أخيراً، لإنشاء تحالف بين النظام السوري وكل من تركيا والأردن والسعودية لمواجهة ما سماه بوتين "الشر" الذي يمثله داعش، وكأنها الرد الروسي على الطرح البريطاني-الأميركي الذي نوقش في قمة الدول الصناعية في بافاريا. وفيما دعا وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، نظيره المعلم إلى عدم التهرب من استئناف العملية السياسية لمواجهة ما سماه "إطباق الإرهاب" على منطقة الشرق الأوسط، تلافى بوتين إعطاء إجابة واضحة، عندما سُئل حول ما إذا كانت بلاده مستعدة لحث الأسد على التنحي، إذا ما كان ذلك يقود إلى حل سياسي للأزمة، لكنه عاد ليقول إن بلاده "مستعدة للعمل مع الأسد لتنفيذ عملية إعادة تشكيل النظام السياسي في سورية، إنما من دون تدخل خارجي". وقد بلغ القلق الروسي مما أخذ داعش يمثله من تهديد، خصوصاً بعد إعلان جهاديي القوقاز الروسي (جمهوريات داغســـتان والشيشان وأنغوشيا وقبردينو – بلقاريا)، مايو/أيار الماضي، قيام ولاية القوقاز، ومبايعتهم زعيم تنظيم داعش، أن اتصل بوتين، على الرغم من حالة التوتر غير المسبوق مع الغرب بسبب أوكرانيا، هاتفيا بالرئيس أوباما، حيث جرى الاتفاق على "فصل الملفات الخلافية، وعدم حصر المناقشات بين البلدين بالاستعصاء الذي سبّبته الأزمة الأوكرانية"، كما تم الاتفاق على عقد لقاء جديد يجمع وزيري الخارجية سيرغي لافروف وجون كيري، لبحث "جملة القضايا المتعلّقة بمكافحة الإرهاب، خصوصاً تمدّد نفوذ تنظيم داعش في منطقة الشرق الأوسط".
الرياض تلتقط اللحظة الروسية
التقط السعوديون، الذين ما فتئوا يراهنون على تغير في الموقف الروسي، على ما يبدو، الإشارات الصادرة من بافاريا، ونتائج اجتماعات كيري في موسكو، وبدأوا محاولة البناء عليها، فأوفدوا ولي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، إلى الكرملين، لمحاولة استيضاح مدى استعداد قيصر روسيا للتفاهم. وكان الروس قد أرسلوا إلى السعوديين إشارات بهذا الخصوص، في أبريل/نيسان الفائت، عندما خذلوا حلفاءهم الإيرانيين في مجلس الأمن، وامتنعوا عن استخدام حق النقض (الفيتو)، لمنع صدور القرار 2216 الخاص بالأزمة اليمنية ، والذي نص، من بين أمور كثيرة، على فرض حظر على توريد السلاح إلى الحوثيين (حلفاء طهران)، وطالبهم بالانسحاب من المناطق التي سيطروا عليها، بما فيها العاصمة صنعاء، ودعا جميع الأطراف اليمنية إلى المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني في الرياض، تحت رعاية مجلس التعاون الخليجي، ما يعني أن روسيا وافقت على اعتبار اليمن شأناً أمنياً سعودياً.
وتقر موسكو التي يبدو أنها تعلق آمالاً على حصول افتراق أكبر في المصالح بين واشنطن والرياض في المرحلة المقبلة، بأن القرار السعودي بالحفاظ على مستوى إنتاج مرتفع من النفط، بغرض معاقبتها، إلى جانب إيران، على مواقفهما الداعمة للنظام السوري، قد أضر بها أكثر من العقوبات التي فرضتها الدول الغربية مجتمعة عليها، بسبب الأزمة الأوكرانية، إذ بلغت خسائر روسيا نتيجة العقوبات الغربية، خلال العام الماضي، نحو 40 مليار دولار، فيما بلغت خسائرها بسبب انخفاض أسعار النفط، في الفترة نفسها، أكثر من 150 مليار دولار.
ويدرك الروس، أيضاً، أن القرار السعودي لم يكن يستهدفهم وحدهم، بل كان موجهاً أيضاً ضد الشركات الأميركية التي استفادت من ارتفاع الأسعار في السنوات الخمس الماضية، لمضاعفة إنتاجها من النفط والغاز الصخريين. وتتشارك كل من السعودية وروسيا الإحساس بالتهديد من تنامي إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز. وفيما يشكل تحول الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للنفط بحلول عام 2017 تهديداً لموقع السعودية النفطي، تدفع روسيا تواً ثمن تجاوز الولايات المتحدة لها باعتبارها أكبر منتج للغاز في العالم هذا العام، واتجاهها نحو تشكيل بديل لصادرات الغاز الروسية إلى أوروبا خلال العقد المقبل.
ويشكل التقارب الإيراني-الغربي المرتقب، بعد التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي، هو الآخر عاملاً ضاغطاً باتجاه مزيد من التنسيق السعودي-الروسي، فإيران تطرح من الآن نفسها بديلاً عن إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، وهو أمر يثير حساسية كبيرة في موسكو. هذا لا يعني طبعاً حصول انقلاب في تحالفات المنطقة، لكنه يعني بروز فرص تفاهم أكبر بين روسيا والسعودية، دفاعاً عن مواقعهما باعتبارهما أكبر مصدرين للطاقة في العالم، حيث إن تعاوناً روسياً-سعودياً فقط في مقدوره أن يضبط أسواق الطاقة والأسعار (ينتج البلدان مجتمعين ربع إنتاج العالم من النفط)، ويسري ذلك على أسواق الغاز، إذا حصل تعاون روسي-قطري، باعتبار أن قطر تصدر ما نسبته 31% من إجمالي صادرات الغاز الطبيعي المسال في العالم. ولا ننسى، أخيراً، أن روسيا والسعودية تتشاركان أيضاً عداءهما الشديد لتنظيم الدولة، وتسعيان، بالدرجة نفسها، إلى القضاء عليه، ما يشكل نقطة التقاء مصالح أخرى. يبقى أن يتفق الطرفان على حل عقدة الرئيس الأسد، حتى ينفتح المجال بينهما واسعاً باتجاه بناء شراكةٍ، يمكن وصفها بالاستراتيجية، خصوصاً في ضوء نجاح السعودية في تغيير موقف حليف بوتين الرئيس في العالم العربي، الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي ظل، حتى وقت قريب، يدافع عن فكرة بقاء الرئيس الأسد جزءاً من حل سياسي، تنفرد القاهرة مع طهران في اعتباره ممكناً في سورية.
وهكذا، يبدو أن الاستراتيجية التي اتبعها الرئيس فلاديمير بوتين إزاء المسألة السورية، ودفع ثمنها السوريون دماً ودماراً، تؤتي أكلها مع تشكل إجماع إقليمي ودولي على أهمية الدور الروسي ومحوريته، في إيجاد حل للمسألة السورية، وذلك في وقت أخذ يتضح فيه، بشكل متزايد، خطأ الرهان على الأميركيين، بعد أن تبين للجميع أن سياسات إدارة الرئيس أوباما (حليف المعارضة المفترض) لم تكن أقل سوءاً من سياسات إدارة الرئيس بوتين (حليف النظام المفترض) لجهة تحويل معاناة السوريين إلى مادة لمساومات ومقايضات، محورها إيران وبرنامجها النووي، فكانت عاملاً رئيساً في إطالة أمد الأزمة وتعظيم ثمنها، ما يبرر، بالتالي، تغيير الاتجاه ومحاولة إيجاد الحل في موسكو هذه المرة. لكن السؤال المركزي يبقى في تقدير حقيقة النفوذ والتأثير الذي تملكه روسيا في سورية، لإنضاج مثل هذا الحل، خصوصاً إذا اتخذت إيران موقفاً معارضاً، أو قررت الذهاب وحدها في التسوية سورياً مع واشنطن. بانتظار اتضاح الإجابة عن هذا السؤال، سيستمر السوريون في تأدية ثمن تحول بلادهم إلى ساحة صراع إرادات إقليمية ودولية.
أخذ هذا الدور يتحول، وإن ببطء، في الأشهر الأخيرة، بفعل عوامل عدة: أولها، اتضاح عجز النظام، على الرغم من كل الدعم الخارجي الذي تلقاه، في حسم المعركة لصالحه عسكرياً، ما حدا روسيا إلى إعادة تموضع تدريجي، ينقلها من خانة الخصم إلى خانة الوسيط في الأزمة، تحسباً لأي تطورات غير متوقعة من جهة، وتعبيراً عن حالة إحباط من عدم تجاوب النظام مع مساعيها إلى بناء حد أدنى من التوافق نحو الحل، مع أقرب أطراف المعارضة السورية إليها، من جهة أخرى.
تمثل العامل الثاني في صعود تنظيم الدولة الإسلامية، وسيطرته على أجزاء شاسعة من العراق والشام، وتحول سورية إلى "مركز جذب" (Magnate) لجهاديي العالم، وجزء كبير منهم من الأقاليم الروسية المسلمة (الشيشان، داغستان، أنغوشيا) أو من جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة. أما العامل الثالث، فهو محاولة موسكو الاستفادة من ظروف الافتراق النسبي في المصالح بين واشنطن والرياض، والاستثمار في فجوة الثقة المتنامية بينهما، في مسعى إلى إعادة إصلاح علاقاتها بدول الخليج، والتي أفسدتها المسألة السورية، وألحقت أضراراً اقتصادية وسياسية بالغة بروسيا.
ضعف النظام وتنامي نفوذ الجماعات الإسلامية، خصوصاً تنظيم الدولة، قاد، من جهة أخرى، إلى حصول تقارب روسي-أميركي، رأى في صعود التنظيم وتمدده تهديداً خطيراً لمصالحه في المنطقة، لكنه اختلف على دور النظام في مواجهته، ففي حين رأت روسيا في نظام الرئيس بشار الأسد شريكاً في الحرب ضد تنظيم الدولة وعموم الجهاديين، كان الموقف الأميركي ينوس، بحسب الضغوط الإقليمية، بين اعتبار النظام السوري جزءاً من المشكلة إلى اعتباره جزءاً من الحل. الجديد الذي ظهر في الحراك السياسي الأخير محاولة واشنطن بلورة موقف مشترك مع موسكو، يتجاوز عقدة النظام، وينحو تجاه اعتبار بقاء الأسد، وليس نظامه، عقبة في وجه احتواء تنظيم الدولة والقضاء عليه. وقد طغى هذا الموضوع، بحسب مصادر عديدة، على محادثات وزير الخارجية الأميركي في موسكو في 11 يونيو/حزيران الماضي، والتي جاءت على خلفية سيطرة فصائل المعارضة، ذات التوجهات الإسلامية في معظمها، على أغلب محافظة أدلب، وسيطرة تنظيم الدولة على تدمر واقترابه من تهديد مدن كبرى بأكملها، مثل حمص وحماة ودمشق وحتى حلب، الأمر الذي دق نواقيس الخطر في الكرملين والبيت الأبيض على السواء.
اكتسب الدفع باتجاه ترجمة هذه المقاربة زخماً إضافياً في قمة الدول الصناعية السبع الكبرى التي عقدت مطلع يونيو/ حزيران الجاري في بافاريا الألمانية، حيث ناقش قادة العالم الرأسمالي، على الرغم من توتر العلاقات مع روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، مقترحاً لإبعاد الرئيس بشار الأسد إلى روسيا، جزءاً من تفاهم غربي-روسي لدمج المعارضة "المعتدلة"، مع ما تبقى من قوات النظام لمواجهة تنظيم الدولة على الأرض. وبحسب صحيفة الإندبندنت البريطانية، استأثرت مواجهة داعش بالجزء الأكبر من الاجتماع الذي عقده الرئيس أوباما مع رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، على هامش القمة. وفي التفاصيل، بدا هذا الاجتماع شديد الشبه باجتماع النورماندي الشهير في يونيو/حزيران 2004 بين الرئيسين السابقين، الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك، واتفقا فيه على إخراج سورية من لبنان. اجتماع أوباما-كاميرون يهدف، على ما يبدو، إلى إخراج الأسد من سورية، وبمساعدة روسيا التي تتجه واشنطن وحلفاؤها الغربيون إلى الإقرار بمركزية دورها، وشرعية مصالحها في سورية.
وجاءت الدعوة التي بدت حينها "مستغربة"، وأطلقها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في لقائه وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، في موسكو، أخيراً، لإنشاء تحالف بين النظام السوري وكل من تركيا والأردن والسعودية لمواجهة ما سماه بوتين "الشر" الذي يمثله داعش، وكأنها الرد الروسي على الطرح البريطاني-الأميركي الذي نوقش في قمة الدول الصناعية في بافاريا. وفيما دعا وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، نظيره المعلم إلى عدم التهرب من استئناف العملية السياسية لمواجهة ما سماه "إطباق الإرهاب" على منطقة الشرق الأوسط، تلافى بوتين إعطاء إجابة واضحة، عندما سُئل حول ما إذا كانت بلاده مستعدة لحث الأسد على التنحي، إذا ما كان ذلك يقود إلى حل سياسي للأزمة، لكنه عاد ليقول إن بلاده "مستعدة للعمل مع الأسد لتنفيذ عملية إعادة تشكيل النظام السياسي في سورية، إنما من دون تدخل خارجي". وقد بلغ القلق الروسي مما أخذ داعش يمثله من تهديد، خصوصاً بعد إعلان جهاديي القوقاز الروسي (جمهوريات داغســـتان والشيشان وأنغوشيا وقبردينو – بلقاريا)، مايو/أيار الماضي، قيام ولاية القوقاز، ومبايعتهم زعيم تنظيم داعش، أن اتصل بوتين، على الرغم من حالة التوتر غير المسبوق مع الغرب بسبب أوكرانيا، هاتفيا بالرئيس أوباما، حيث جرى الاتفاق على "فصل الملفات الخلافية، وعدم حصر المناقشات بين البلدين بالاستعصاء الذي سبّبته الأزمة الأوكرانية"، كما تم الاتفاق على عقد لقاء جديد يجمع وزيري الخارجية سيرغي لافروف وجون كيري، لبحث "جملة القضايا المتعلّقة بمكافحة الإرهاب، خصوصاً تمدّد نفوذ تنظيم داعش في منطقة الشرق الأوسط".
الرياض تلتقط اللحظة الروسية
التقط السعوديون، الذين ما فتئوا يراهنون على تغير في الموقف الروسي، على ما يبدو، الإشارات الصادرة من بافاريا، ونتائج اجتماعات كيري في موسكو، وبدأوا محاولة البناء عليها، فأوفدوا ولي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، إلى الكرملين، لمحاولة استيضاح مدى استعداد قيصر روسيا للتفاهم. وكان الروس قد أرسلوا إلى السعوديين إشارات بهذا الخصوص، في أبريل/نيسان الفائت، عندما خذلوا حلفاءهم الإيرانيين في مجلس الأمن، وامتنعوا عن استخدام حق النقض (الفيتو)، لمنع صدور القرار 2216 الخاص بالأزمة اليمنية ، والذي نص، من بين أمور كثيرة، على فرض حظر على توريد السلاح إلى الحوثيين (حلفاء طهران)، وطالبهم بالانسحاب من المناطق التي سيطروا عليها، بما فيها العاصمة صنعاء، ودعا جميع الأطراف اليمنية إلى المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني في الرياض، تحت رعاية مجلس التعاون الخليجي، ما يعني أن روسيا وافقت على اعتبار اليمن شأناً أمنياً سعودياً.
وتقر موسكو التي يبدو أنها تعلق آمالاً على حصول افتراق أكبر في المصالح بين واشنطن والرياض في المرحلة المقبلة، بأن القرار السعودي بالحفاظ على مستوى إنتاج مرتفع من النفط، بغرض معاقبتها، إلى جانب إيران، على مواقفهما الداعمة للنظام السوري، قد أضر بها أكثر من العقوبات التي فرضتها الدول الغربية مجتمعة عليها، بسبب الأزمة الأوكرانية، إذ بلغت خسائر روسيا نتيجة العقوبات الغربية، خلال العام الماضي، نحو 40 مليار دولار، فيما بلغت خسائرها بسبب انخفاض أسعار النفط، في الفترة نفسها، أكثر من 150 مليار دولار.
ويدرك الروس، أيضاً، أن القرار السعودي لم يكن يستهدفهم وحدهم، بل كان موجهاً أيضاً ضد الشركات الأميركية التي استفادت من ارتفاع الأسعار في السنوات الخمس الماضية، لمضاعفة إنتاجها من النفط والغاز الصخريين. وتتشارك كل من السعودية وروسيا الإحساس بالتهديد من تنامي إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز. وفيما يشكل تحول الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للنفط بحلول عام 2017 تهديداً لموقع السعودية النفطي، تدفع روسيا تواً ثمن تجاوز الولايات المتحدة لها باعتبارها أكبر منتج للغاز في العالم هذا العام، واتجاهها نحو تشكيل بديل لصادرات الغاز الروسية إلى أوروبا خلال العقد المقبل.
ويشكل التقارب الإيراني-الغربي المرتقب، بعد التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي، هو الآخر عاملاً ضاغطاً باتجاه مزيد من التنسيق السعودي-الروسي، فإيران تطرح من الآن نفسها بديلاً عن إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، وهو أمر يثير حساسية كبيرة في موسكو. هذا لا يعني طبعاً حصول انقلاب في تحالفات المنطقة، لكنه يعني بروز فرص تفاهم أكبر بين روسيا والسعودية، دفاعاً عن مواقعهما باعتبارهما أكبر مصدرين للطاقة في العالم، حيث إن تعاوناً روسياً-سعودياً فقط في مقدوره أن يضبط أسواق الطاقة والأسعار (ينتج البلدان مجتمعين ربع إنتاج العالم من النفط)، ويسري ذلك على أسواق الغاز، إذا حصل تعاون روسي-قطري، باعتبار أن قطر تصدر ما نسبته 31% من إجمالي صادرات الغاز الطبيعي المسال في العالم. ولا ننسى، أخيراً، أن روسيا والسعودية تتشاركان أيضاً عداءهما الشديد لتنظيم الدولة، وتسعيان، بالدرجة نفسها، إلى القضاء عليه، ما يشكل نقطة التقاء مصالح أخرى. يبقى أن يتفق الطرفان على حل عقدة الرئيس الأسد، حتى ينفتح المجال بينهما واسعاً باتجاه بناء شراكةٍ، يمكن وصفها بالاستراتيجية، خصوصاً في ضوء نجاح السعودية في تغيير موقف حليف بوتين الرئيس في العالم العربي، الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي ظل، حتى وقت قريب، يدافع عن فكرة بقاء الرئيس الأسد جزءاً من حل سياسي، تنفرد القاهرة مع طهران في اعتباره ممكناً في سورية.
وهكذا، يبدو أن الاستراتيجية التي اتبعها الرئيس فلاديمير بوتين إزاء المسألة السورية، ودفع ثمنها السوريون دماً ودماراً، تؤتي أكلها مع تشكل إجماع إقليمي ودولي على أهمية الدور الروسي ومحوريته، في إيجاد حل للمسألة السورية، وذلك في وقت أخذ يتضح فيه، بشكل متزايد، خطأ الرهان على الأميركيين، بعد أن تبين للجميع أن سياسات إدارة الرئيس أوباما (حليف المعارضة المفترض) لم تكن أقل سوءاً من سياسات إدارة الرئيس بوتين (حليف النظام المفترض) لجهة تحويل معاناة السوريين إلى مادة لمساومات ومقايضات، محورها إيران وبرنامجها النووي، فكانت عاملاً رئيساً في إطالة أمد الأزمة وتعظيم ثمنها، ما يبرر، بالتالي، تغيير الاتجاه ومحاولة إيجاد الحل في موسكو هذه المرة. لكن السؤال المركزي يبقى في تقدير حقيقة النفوذ والتأثير الذي تملكه روسيا في سورية، لإنضاج مثل هذا الحل، خصوصاً إذا اتخذت إيران موقفاً معارضاً، أو قررت الذهاب وحدها في التسوية سورياً مع واشنطن. بانتظار اتضاح الإجابة عن هذا السؤال، سيستمر السوريون في تأدية ثمن تحول بلادهم إلى ساحة صراع إرادات إقليمية ودولية.