إنه وقت المصالحات في المنطقة

03 ابريل 2015
+ الخط -
تنبُّه المملكة العربية السعودية، ولو متأخرة، لمخاطر غياب مرجعية سياسية سنّية في المنطقة العربية، أمر محمود، إلا أنه غير كاف. فإذا كانت "عاصفة الحزم" في اليمن بثت بعض روح في الجسد العربي المنهك والمستباح، فإن الحيوية لن تعود إلى هذا الجسد من دون اجتراح مصالحات حقيقية بين مكوناته الرئيسة، بعد أعوام مريرة من الانقلابات، والتآمر على خيارات الشعوب، في غير بلد، وتغذية بعضهم صراعات أهلية وسياسية فتاكة ومدمرة.
الآن، ينبغي أن يكون قد اتضح لأي ذي بصيرة في طبقة صناع القرار العربي، ممن تورطوا في دعم الثورات المضادة، أن استفزازهم معارك داخل البيت الواحد، وإعلان أحد أبنائه عدواً، واختزال الحال العربي به، كان خطأً استراتيجيا فظيعاً، يدفع الجميع ثمنه اليوم. أنظمة الثورات المضادة قاربت حركة الشعوب التواقة لحريتها وكرامتها مصدر تهديد وجودي، يجب إلغاؤه وسحقه، وهي، في سبيل تحقيق ذلك، جعلت من "الإسلام السياسي السني" عنواناً لمعركة كسر العظم مع حركة التغيير المجتمعي، فكانت النتيجة أن انكشفت المنطقة استراتيجياً، وأصبحت رهينة أكثر فأكثر للأطماع الغربية والإسرائيلية والإيرانية. قادنا منطق المعارك الاستنزافية الذاتية نحن العرب إلى حيث نحن اليوم، يتخطفنا الجميع، ويتزاحمون على إعادة ترسيم جغرافيا أوطاننا، وتحديد مستقبل أمتنا.
في عام 1990، ارتكبت بعض دول الخليج العربي خطأً استراتيجياً من العيار الثقيل نفسه، عندما استفزت العراق، الخارج من ثماني سنوات عجاف في حربه مع إيران.. استفزته بتسعيرة برميل النفط والديون المتراكمة عليه لها. هذا لا يعني أن عراق الرئيس الراحل، صدام حسين، كان بريئاً في سياق الأحداث التي انتهت بكارثة غزوه الكويت واحتلالها، وما تلا ذلك من تدمير العراق، عبر تحالف قادته الولايات المتحدة، وضم دولاً عربية، غير أن نظرة إلى الوراء اليوم تنبئنا، يقيناً، أن حصار العراق وتدميره، بدءاً من مطلع التسعينيات، ووصولاً إلى العدوان عليه واحتلاله عام 2003، لم تعد على المنطقة العربية إلا بالكوارث.
 
فالعدوان الأميركي على العراق وغزوه بعثر الأحجار العربية، وضاعف من اختلال معادلة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. كما أنه أسس لقيام "حصان طروادة" مهّد الطريق إلى الولايات المتحدة، للعبث في شؤون المنطقة، والتدخل المباشر فيها. ثمَّ إنه، ومع تعثر الاحتلال الأميركي للعراق، قُدِّمَ البلد على طبق من ذهب لإيران التي تحكمه واقعياً اليوم، عبر وكلائها فيه. وبالتالي، أصبحت إيران تملك عملياً، حدوداً برية مع المملكة العربية السعودية والكويت. وهكذا، فبعد أن كان العراق الدرع الواقي للخليج العربي، والمشرق العربي عموماً، غدا المشرق العربي كله، بين ليلة وضحاها، مهدداً بالتمدد الإيراني. ومن نافلة القول إن لبنان والعراق وسورية واليمن، اليوم، ما هي إلا كواكب في المجرة الإيرانية.
لو أتيح، اليوم، لبعض صناع القرار العربي، المعنيين بكارثة خسارة العراق، تدارك أفعالهم التي قادت إلى ما وصلنا إليه، فلا أحسبهم إلا كانوا سيتصرفون بأسلوب آخر، يحاول أن يستوعب الخلاف مع صدام حسين بطريقة أو بأخرى. ولكن، ذلك أمر مضى، وكلنا يعلم أنه لا يمكن، في الوقت الراهن، إصلاح التداعيات التي ترتبت عليه، والأعطاب التي نتجت عنه.
غير أننا لا زلنا في مرحلةٍ يمكننا فيها تدارك سياسات كارثية كثيرة حالية. فدعم الثورات المضادة هَتَّكَ أكثر فأكثر العمق الاستراتيجي العربي، وأمننا الجمعي. وبقاء حالة الاستنزاف الداخلي في الفضاء العربي لن تعني إلا مزيد تدهور، وهي ستلغي أي إنجازات مرجوة من "عاصفة الحزم"، هذا إذا كان سيكون لها أي إنجازات، في ظل النخر الذي يعاني منه الجسد العربي.
حين أخطأت السعودية في حساباتها العراقية، مطلع تسعينيات القرن الماضي، فصاعداً، كانت النتيجة انفلات تيار عنف إسلامي رافض الوجود الأميركي على أراضي المملكة، ثمَّ تهديدها إيرانياً على حدودها الشمالية. وحين أخطأت المملكة في حساباتها، مع انطلاق الثورات العربية أواخر عام 2010، فإن النتيجة أن التهديد الإيراني أطل، هذه المرة، عبر الحدود الجنوبية. دع عنك، أصلاً، ضياع سورية لصالح إيران والفوضى، وتعزيز إسرائيل وضعها في المنطقة على حساب الجميع، وتلاعب أميركا بالعرب في سياق مفاوضات النووي مع إيران.
ليست المملكة وحدها من تدفع ثمن الخطأ في الحسابات، فدول عربية كثيرة خاصمت حركة الشعوب، تعيش هي الأخرى مأزقاً كبيراً، في مقدمتها مصر. فالانقلاب العسكري على رئيس منتخب عام 2013، لم يأت لمصر، ولا للمنطقة، بالاستقرار والأمن. بل مصر اليوم أقرب إلى دولة فاشلة، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، ولولا الصنبور الذي يضخ المساعدات إليها، لكانت انهارت الدولة. ويكفي، هنا، أن نشير إلى قبول نظام عبد الفتاح السيسي بسد النهضة الأثيوبي على نهر النيل واقعاً قائماً، لا يمكن تغييره، ما قد يعني تعطيش مصر في السنوات القليلة المقبلة. أضحى أمن مصر القومي، اليوم، رهينة الانقسام المجتمعي الذي أحدثه الانقلاب والثورة المضادة. فأمام واقع الاستنزاف الداخلي وغياب الإجماع الوطني فقدت مصر مزيداً من دورها الإقليمي المترنح، أصلاً، منذ عقود.
أمام المعضلات والتحديات البنيوية التي تعيشها المنطقة، يصبح من الضروري وقف حالة النزيف الداخلي التي يعاني منها الجسد العربي، وأول خطوة، على هذا الصعيد، تكمن بإعادة تعريف مصادر التهديد. فاصطناع عدو وهمي، من قبيل "الإسلام السياسي"، لن يعني إلا مزيداً من الاستنزاف. وهنا، تبرز أهمية المحور السعودي-القطري-التركي لإعادة ترتيب أوراق المنطقة، خصوصاً في مصر وسورية وليبيا واليمن، بالسعي إلى عقد مصالحات وصفقات تاريخية، تجلب بعض الهدوء لها. فالأنظمة المعادية للثورات، ولسعي الشعوب إلى حريتها، مطالبة بأن تدرك بأن الوقوف أمام حركة التاريخ مستحيلة، وهي إن حاولت التلاعب بتلك الحركة، فإنها ستحصل على نتائج مشوهة، لا تقل خطورة على أمنها واستقرارها. كشفت الثورات المضادة المنطقة استراتيجياً، وأفقدتنا الأمن والاستقرار، وهشمت التوافق الوطني في غير دولة. أيضا، على التيارات الطامحة للتغيير أن تدرك بأنه توفرت لنا نافذة زمنية ضيقة لإحداث تغييرات جذرية واعية، خلال ذروة الثورات (2011-2013)، غير أننا ضيعناها لغياب المشروع، وفشل المكونات المختلفة في استيعاب بعضها، فكانت النتيجة انقلابات يُكوى بنارها الجميع.
نحن العرب، اليوم، أمام نافذة زمنية أخرى ضيقة، فإما أن نسعى إلى اجتراح المصالحات والتوافقات المرحلية (في سورية، ينبغي أن تقوم على أساس رحيل بشار الأسد ومن حوله)، أو أن نغرق، جميعاً، أكثر فأكثر. وسواء تمت هذه المصالحات أم لم تتم، فإنها لن تعني أن ثورات أخرى، ربما خلال عقد، لن تنزل بساحنا من جديد، فبدون إصلاح جذري لواقعنا الآن، فإن الانفجار هو البديل.