حين تبحث إسرائيل تفكيك السلطة الفلسطينيّة

26 ديسمبر 2015
+ الخط -
تدخل الانتفاضة الفلسطينية شهرها الثالث، وتنشغل الأوساط السياسية الإسرائيلية والفلسطينية بمآلاتها المتوقعة، إذا ما قدّر لها أن تستمر حتى إشعار آخر، بما في ذلك الفرضية التي يتم تداولها في رام الله وتل أبيب عن انهيار السلطة الوطنية الفلسطينية.
لم يتفق الفلسطينيون والإسرائيليون بعد حول التسمية المرجحة للفرضية المقبلة، بين انهيار السلطة الفلسطينية، أو تفككها، أو سقوطها، لكن النتيجة، في النهاية، أننا أمام وضع سياسي وأمني جديد، يعيدنا إلى ما قبل العام 1994، حين بسطت أول سلطة وطنية فلسطينية أقدامها على أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بموجب اتفاق أوسلو.
هناك دوافع للحديث عن هذه الفرضية غير المستبعدة، المتمثلة بغياب السلطة الفلسطينية، أو بعض أدوارها السياسية عن المشهد الفلسطيني، لعل أهمها مواصلة السلطات الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة منذ الأول من أكتوبر/ تشرين الأول إجراءاتها الأمنيّة والعسكريّة المتمثّلة في اعتقالات الفلسطينيّين، وتقطيع أوصال مدنهم، وهدم منازلهم، لمحاولة وقف العمليّات الفلسطينيّة ضدّ الإسرائيليّين، وتمثّلت بالطعن والدهس وإطلاق النار.
وفي ذروة هذا الحال الفلسطينيّ-الإسرائيليّ، جاء مفاجئاً أن تسرّب الصحافة الإسرائيلية أواخر نوفمبر/تشرين الثاني وأوائل ديسمبر/كانون الأول، أنّ المجلس الوزاريّ الإسرائيليّ المصغّر للشؤون الأمنيّة والسياسيّة ناقش سيناريو انهيار السلطة الفلسطينيّة، وسبل التعامل الإسرائيليّ مع هذا الاحتمال في حال حصوله، مع وجود وزراء إسرائيليّين مؤيدين ذلك، في ظل اعتبارهم أن انهيار السلطة فرصة تخدم مصالح إسرائيل، وطالبوا حكومتهم بعدم منع انهيارها، لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، أعلن أنّه لا يتمنّى انهيار السلطة، خوفاً من البدائل السيّئة على الأمن الإسرائيليّ.
وفيما توقّفت المداولات الصحافيّة في شأن نقاشات الحكومة الإسرائيليّة، عاود وزير الخارجيّة الأميركيّ، جون كيري، التحذير في خطاب له، في منتدى سابان لسياسات الشرق الأوسط التابع لمركز بروكينغز في واشنطن، من عواقب انهيار السلطة الفلسطينيّة، لأنّه سيشكّل تهديداً لإسرائيل، لكن تزامن تحذيرات كيري مع نقاشات الحكومة الإسرائيليّة قد لا يكون عفويّاً، بل ربّما ارتبط بتأزّم العلاقة بين إسرائيل والسلطة، بسبب عدم القدرة الإسرائيليّة على وقف موجة الهجمات الفلسطينيّة، على الرغم من إجراءاتها العسكريّة والأمنيّة، وتزايد تحريض إسرائيل ضدّ السلطة، واتّهامها بعدم وقف العمليّات، بلسان وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعلون.
وقد لا يتوافر لدى الفلسطينيّين، حتّى اللحظة، سيناريو تفصيليّ حول طبيعة الانهيار المتوقّع للسلطة الفلسطينيّة، لكن التقديرات تتراوح بين المعطيات التالية:
أن تنفذ إسرائيل عمليّة عسكريّة كبيرة تجتاح الضفّة الغربيّة بصورة شاملة، كما حصل إبّان "السور الواقي" في العام 2002، وتسفر عن تقييد حركة الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس، كما حصل مع الرئيس الراحل ياسر عرفات في عام 2002. أن تذهب إسرائيل إلى استهداف تدريجيّ للأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، واعتقال بعض عناصرها، لانخراطهم في هجمات ضدّ إسرائيل، آخرها دهس ضابط مخابرات فلسطيني، أوائل ديسمبر/كانون الأول، جنوداً إسرائيليين في شمال القدس، حيث أطلق عليه الجنود الإسرائيليون النار، وقتلوه. وربّما يؤدي إيقاف تحويل أموال الضرائب إلى السلطة الفلسطينيّة إلى حصول تفكّك تدريجيّ لها، وليس انهياراً مفاجئاً، لأن السلطة، في هذه الحالة، ستكون عاجزة عن توفير مرتبات موظفيها، وبالتالي، عجزهم عن القيام بمهامهم الوظيفية تجاه الفلسطينيين، خصوصاً عناصر الأجهزة الأمنية، ما قد يؤدي إلى غياب الضبط الأمني في الضفة الغربية. وقد تذهب إسرائيل إلى تقسيم الضفّة إلى وحدات جغرافيّة عدّة، لكلّ وحدة قائد عسكريّ إسرائيليّ له الحريّة في معالجة الوضع الأمنيّ لوقف العمليّات الفلسطينيّة بوسائل الضغط العسكريّ والاقتصاديّ، وإقامة حواجز إسمنتيّة حول القرى، ومنع الجيش الإسرائيليّ مرور السيّارات بين المدن الفلسطينيّة. وهذه إجراءات قد تقلّص سيطرة السلطة على الضفّة الغربيّة، ولا يعود لها نفوذ فعليّ، تمهيداً لإسقاطها تدريجيّاً.
ولذلك، يبدو أن خيار انهيار السلطة الفلسطينية بات سيناريو قابلاً للتحقق، في ظل المواقف اليمينية الإسرائيلية، ما يعني أن إسرائيل قد تواجه صعوبات جدية في إدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويعيدها إلى مرحلة ما قبل قيام السلطة الفلسطينية عام 1994، بما يعني ذلك من تحملها أعباء إدارية واقتصادية وأمنية.
لم تعقّب السلطة رسميّاً على التسريب الإسرائيليّ، على عكس المتوقّع، مع أنّه يمسّ مصيرها، والنقاش الإسرائيلي حول مصيرها لم يقم به أكاديميون في محاضرة جامعية، بل خاضه صنّاع القرار من القيادات السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة، مكتفية بما تحدث به بعض ناطقيها بصفة غير رسمية، أن هذه النقاشات إنما تأتي فقط نوعاً من التهديدات الإسرائيليّة للضغط على القيادة الفلسطينيّة.
يبدو، حتى اللحظة، أن هناك عدم توافق إسرائيليّ داخليّ على فرضيّة انهيار السلطة
الفلسطينيّة، في ضوء تشجّع وزراء يمينيّين، ومعارضة الأجهزة الأمنيّة والجيش الإسرائيليّ، التي تعتبر أنّ أيّ خيار آخر غير السلطة الفلسطينيّة يعني مزيداً من الفوضى الأمنيّة، وهو ما لا تحبّذه الأجهزة الأمنية والجيش الإسرائيليان، نظراً لتوفر قناعات لديها بأن انهيار السلطة الفلسطينية، خطوة بعد خطوة، يعني إمكانية الذهاب إلى حالة من الفوضى في الضفة الغربية.
لا تسلم الأوساط الفلسطينية، على ما يبدو، بتفسير النقاشات الإسرائيلية بشأن مستقبل السلطة الوطنية تهديدات إعلامية فقط، بل هناك من يراها جدّيّة، وليس مبالغاً فيها، لأنّ هناك تعويلاً إسرائيليّاً على ما بات يعرف بالحلّ الإقليميّ، في ضوء ما تقوله إسرائيل عن تحسّن علاقاتها مع بعض الدول العربيّة، عبر الدعوة لعقد مؤتمر إقليمي بمشاركة الدول العربية، وإمكان تجاوز السلطة الفلسطينيّة، وهو ما يطرحه اليمين الإسرائيليّ الذي يريد ضمّ كلّ المناطق في الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل.
تشير هذه السيناريوهات مجتمعةً إلى أن الخليفة المتوقّع في حال انهيار السلطة الفلسطينيّة، سيكون منسّق عمليّات الحكومة الإسرائيليّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، الجنرال يوآف مردخاي، مع أن المشكلة الأكبر التي ستواجه إسرائيل، في حال تحقّق سيناريو انهيار السلطة الفلسطينيّة، المصير المجهول لأفراد الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، والذين يحملون عشرات الآلاف من البنادق والأسلحة، وربّما تقع في أيدي منفّذي العمليّات المسلّحة ضدّ الإسرائيليّين.
قد يجعل ذلك كله إسرائيل تفكّر مرّات عدّة، قبل الإقدام على إسقاط السلطة الفلسطينيّة، لاسيما في ضوء استمرار الانتفاضة، وإمكانية توسعها إلى حالة من المواجهات والاضطرابات المستمرة، في حين لا يعرف كيف سيكون رد فعل الفلسطينيين على مثل هذا التطور، المتمثل بحصول الانهيار التدريجي للسلطة الفلسطينية.
صحيح أنّ موقف السلطة من الانتفاضة ما زال متردّداً، فلا هي داعمة لها كليّاً، خشية ردود الفعل الإسرائيليّة، ولا تقف ضدّها خوفاً من غضب الفلسطينيّين، لكنّ هذا الموقف لا يكفي صنّاع القرار الإسرائيليّ على ما يبدو، ما قد يجعلهم يقومون بسياسة تدريجيّة نحو حافّة الهاوية، للضغط على السلطة الفلسطينيّة، وإشعارها بأنّها قد تكون آيلة إلى الانهيار، إنْ لم تتّخذ موقفاً رافضاً للانتفاضة، ولا يبدو أنّ السلطة في صدد أن تعلن موقفاً على هذا النحو قريباً.
وكعادتهم في قضايا كثيرة، الإسرائيليون منقسمون بشأن مستقبل السلطة الفلسطينية، على الرغم من قناعات معظمهم بأن هذه السلطة تحولت، مع مرور الوقت، وفي ظل جمود العملية السياسية إلى مجرد وكيل أمني لإسرائيل، وبقاؤها يمنح إسرائيل أمناً، من دون أن تدفع ثمناً له، بما يجعلها أرخص احتلال في العالم على غرار الاحتلال "سوبر ديلوكس". لكن الانزياح اليميني للحكومة الإسرائيلية الحالية يجعلها تفكر بصورة بعيدة عن الواقعية السياسية، وتذهب إلى حد طي صفحة "أوسلو" كلياً، بما يعنيه ذلك من إسقاط السلطة الفلسطينية.

1CF9A682-2FCA-4B8A-A47C-169C2393C291
عدنان أبو عامر

كاتب وباحث فلسطيني، دكتوراة في التاريخ السياسي من جامعة دمشق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة في غزة، له العديد من المؤلفات والأبحاث والدراسات والمقالات.