05 نوفمبر 2024
رهانات الأردن والتدخّل الروسي
تدفع جملة معتبرة من المؤشرات إلى طرح سؤال، وربما أكثر من علامة استفهام، على تعريف الموقف الأردني من التدخل العسكري الروسي في سورية، فبينما يصفه محللون بـ"الحياد الإيجابي"، يراه آخرون "غامضاً"، فيما يتحدث سياسيون عن استدارة متدرجة بدأت تظهر في الآونة الأخيرة.
لو اقتصر الموقف الأردني عند حدود "عدم التوقيع" على البيان السباعي (وقّعته الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، تركيا، السعودية وقطر)، والذي يتضمن نقداً لهذا التدخل، كان يمكن اعتبار ذلك حياداً، لكنه اقترن برسائل وإشارات بروتوكولية عابرة اكتسب توقيتها (مع التدخل الروسي) دلالة سياسية، إذ استقبل الملك عبدالله الثاني رئيسة المجلس الاتحادي الروسي، فالنتينا ماتفيينو (في 5 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) في أثناء زيارتها الرسمية عمان، بينما تذكر مصادر سياسية أنّ هذا اللقاء لم يكن مدرجاً على جدول زيارة المسؤولة الروسية. وفي الوقت نفسه، أرسل مستشار الملك العسكري رئيس هيئة الأركان العسكرية رسالة بروتوكولية لنظيره السوري يهنئه فيها بعيد الأضحى، الأمر الذي قرأه الإعلام السوري نفسه بوصفه استدارة أردنية، ومحاولات لمغازلة دمشق.
ضعوا هذه المؤشرات جانباً، على الرغم من أهميتها على الصعيدين الديبلوماسي والسياسي، فما هو أهمّ منها التسريبات التي صدرت عن قيادات "الجبهة الجنوبية" في سورية تشي بأنّ هنالك توقفاً كاملاً عن دعم الجبهة وتزويدها بالسلاح والذخائر في مواجهة النظام السوري، على الرغم من الانتصارات العسكرية الهائلة التي حققتها في الأشهر الماضية، قبل فشل محاولتها للقضاء على وجود الجيش السوري تماماً في الجنوب، عبر عاصفة الصحراء. والمفارقة تتبدّى في أنّ الجبهة الجنوبية هي اليوم بمثابة أكبر فصيل عسكري في درعا، يحظى برعاية خاصة من الأردن والسعودية والولايات المتحدة الأميركية ودول غربية، ولها صلات تنسيقية جيدة مع ما يسمى "الموك" (غرفة إدارة العمليات العسكرية في جنوب سورية، تعقد دورياً في الأردن)، ويحظى الأردن، تحديداً (بسبب الجوار الجغرافي) بتأثير كبير على الجبهة التي تمثّل مصدراً مهماً لنفوذه وأمنه في الجنوب السوري.
يمكن أن نفهم التحوّط الدبلوماسي الأردني في عدم استعداء موسكو بالتوقيع على البيان السباعي، على الرغم من أنّ ذلك يعطي مؤشرات سلبية على علاقة الأردن بالسعودية، ويعزز التقديرات أنّ ما يسمى معسكر الاعتدال العربي بدأ يفقد تماسكه عبر الاختلاف مع القيادة السعودية، واقتراب الأخيرة من قطر وتركيا. لكن، ما يستدعي تفسيراً عميقاً هو السبب وراء التخلي عن الدعم العسكري وتوقيف نشاط (الموك)، ما قد يُفقد الأردن نفوذاً مهماً في الجنوب، وحليفاً استراتيجياً يمثّل خطّاً استراتيجياً في حماية الأمن الوطني الأردني.
وترى قيادات الجبهة الجنوبية أنّ توقف الدعم مرتبط بقرار سياسي من الدول الغربية والعربية بالتوقف في الجنوب عند الوضع الحالي، والإبقاء على وجود محدود للجيش السوري في درعا البلد، لأنّ تحريرها بالكامل يعني، باختصار، أنّ المرحلة التالية ستكون دمشق حتماً، ما قد يخرج عن سيطرة الحلفاء الذين لا يملكون جواباً على السؤال التالي لسقوط دمشق، أو على الأقل تراجع الأسد منها إلى الخطة (ب)، أي مناطق الساحل السوري. لكنّ تزامن توقف الدعم الأردني مع بروز خلافات على السطح، أو تذمّر من قيادات الجبهة الجنوبية من شعورهم بتخلّي الأردن عنهم، بالتزامن مع التدخل العسكري الروسي، يعطي انطباعاً بأنّها رسالة مشفّرة أردنية أخرى، بأنّ الأردن، وإن لم يكن في طور الاستدارة الفعلية، فهو في طور الانتظار والتريّث، وتبصّر النتائج المترتبة على التغير الكبير في قواعد اللعبة السورية، الناجم عن التدخل العسكري الروسي، وما قد يترتب عليه من نتائج.
يؤكد المقرّبون من دوائر القرار على فرضية الانتظار والتريّث، لكنهم يربطون، أيضاً، الموقف الديبلوماسي الأردني بعلاقات جيدة على الصعيد الشخصي بين الملك عبدالله الثاني والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبتفاهمات عميقة بين الطرفين سابقة حول الحل السياسي المنشود في سورية، بل وتقارب شديد في وجهتي النظر، وبضمانات روسية للأردن بحماية مصالحه، وخصوصاً في الجنوب، ما يجعل من توقيف الدعم الأردني بمثابة رسائل حسن نياتٍ لروسيا، أكثر منها للنظام السوري. فوق هذا وذاك، يهوّن أولئك المقربون من شأن توقف الدعم العسكري للجبهة الجنوبية، ويؤكدون أنّه ليس سابقة، بل وقع قبل ذلك مثل هذا الموقف. وفي الوقت نفسه، لا يخشى "مطبخ القرار" من انفراط الجبهة الجنوبية، أو خسارة النفوذ الأردني في الجنوب، لأنّ الأردن هو النافذة الوحيدة لأهالي درعا، والحاضنة الشعبية للمقاومة، فضلاً عن أنّ الدعم الإنساني والاقتصادي والصحّي لم يتوقف عن السكان هناك.
في المجمل، وبأخذ تلك المؤشرات والتفسيرات بعين الاعتبار، يمكن القول إنّ الأردن، بالفعل، في مرحلة انتظار للصيرورة الجديدة المترتبة على التدخل العسكري الروسي، لكنه، في الوقت نفسه، قام باستدارة جزئية وإعادة تموضع نسبية تدفعه مسافة قصيرة بعيداً عن الموقف المتشنّج من النظام السوري، أو التدخل المباشر في دعم المعارضة المسلحة، بانتظار انجلاء غبار المعارك قليلاً، مع تراجع الزخم العسكري الروسي والتفكير جدياً بالحل السياسي.
تبقى هنالك أسئلة عميقة مطروحة في عمّان، ترتبط بالجنوب السوري والخشية من سيناريو انتقال العمليات العسكرية لاحقاً نحو درعا، ما قد يفاقم مشكلة اللاجئين أو انهيار الجبهة الجنوبية وتفككها، وتمكّن داعش والنصرة من تثبيت أقدامهما هناك، ما قد ينجم عنه خسارة إحدى الضمانات القوية والفاعلة القائمة عملياً هناك، ضد موجات جديدة من الهجرة أو نمو الجماعات المعادية للأردن، أو حتى قيام أعمال عدائية عبر الحدود الشمالية.
لو اقتصر الموقف الأردني عند حدود "عدم التوقيع" على البيان السباعي (وقّعته الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، تركيا، السعودية وقطر)، والذي يتضمن نقداً لهذا التدخل، كان يمكن اعتبار ذلك حياداً، لكنه اقترن برسائل وإشارات بروتوكولية عابرة اكتسب توقيتها (مع التدخل الروسي) دلالة سياسية، إذ استقبل الملك عبدالله الثاني رئيسة المجلس الاتحادي الروسي، فالنتينا ماتفيينو (في 5 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) في أثناء زيارتها الرسمية عمان، بينما تذكر مصادر سياسية أنّ هذا اللقاء لم يكن مدرجاً على جدول زيارة المسؤولة الروسية. وفي الوقت نفسه، أرسل مستشار الملك العسكري رئيس هيئة الأركان العسكرية رسالة بروتوكولية لنظيره السوري يهنئه فيها بعيد الأضحى، الأمر الذي قرأه الإعلام السوري نفسه بوصفه استدارة أردنية، ومحاولات لمغازلة دمشق.
ضعوا هذه المؤشرات جانباً، على الرغم من أهميتها على الصعيدين الديبلوماسي والسياسي، فما هو أهمّ منها التسريبات التي صدرت عن قيادات "الجبهة الجنوبية" في سورية تشي بأنّ هنالك توقفاً كاملاً عن دعم الجبهة وتزويدها بالسلاح والذخائر في مواجهة النظام السوري، على الرغم من الانتصارات العسكرية الهائلة التي حققتها في الأشهر الماضية، قبل فشل محاولتها للقضاء على وجود الجيش السوري تماماً في الجنوب، عبر عاصفة الصحراء. والمفارقة تتبدّى في أنّ الجبهة الجنوبية هي اليوم بمثابة أكبر فصيل عسكري في درعا، يحظى برعاية خاصة من الأردن والسعودية والولايات المتحدة الأميركية ودول غربية، ولها صلات تنسيقية جيدة مع ما يسمى "الموك" (غرفة إدارة العمليات العسكرية في جنوب سورية، تعقد دورياً في الأردن)، ويحظى الأردن، تحديداً (بسبب الجوار الجغرافي) بتأثير كبير على الجبهة التي تمثّل مصدراً مهماً لنفوذه وأمنه في الجنوب السوري.
يمكن أن نفهم التحوّط الدبلوماسي الأردني في عدم استعداء موسكو بالتوقيع على البيان السباعي، على الرغم من أنّ ذلك يعطي مؤشرات سلبية على علاقة الأردن بالسعودية، ويعزز التقديرات أنّ ما يسمى معسكر الاعتدال العربي بدأ يفقد تماسكه عبر الاختلاف مع القيادة السعودية، واقتراب الأخيرة من قطر وتركيا. لكن، ما يستدعي تفسيراً عميقاً هو السبب وراء التخلي عن الدعم العسكري وتوقيف نشاط (الموك)، ما قد يُفقد الأردن نفوذاً مهماً في الجنوب، وحليفاً استراتيجياً يمثّل خطّاً استراتيجياً في حماية الأمن الوطني الأردني.
وترى قيادات الجبهة الجنوبية أنّ توقف الدعم مرتبط بقرار سياسي من الدول الغربية والعربية بالتوقف في الجنوب عند الوضع الحالي، والإبقاء على وجود محدود للجيش السوري في درعا البلد، لأنّ تحريرها بالكامل يعني، باختصار، أنّ المرحلة التالية ستكون دمشق حتماً، ما قد يخرج عن سيطرة الحلفاء الذين لا يملكون جواباً على السؤال التالي لسقوط دمشق، أو على الأقل تراجع الأسد منها إلى الخطة (ب)، أي مناطق الساحل السوري. لكنّ تزامن توقف الدعم الأردني مع بروز خلافات على السطح، أو تذمّر من قيادات الجبهة الجنوبية من شعورهم بتخلّي الأردن عنهم، بالتزامن مع التدخل العسكري الروسي، يعطي انطباعاً بأنّها رسالة مشفّرة أردنية أخرى، بأنّ الأردن، وإن لم يكن في طور الاستدارة الفعلية، فهو في طور الانتظار والتريّث، وتبصّر النتائج المترتبة على التغير الكبير في قواعد اللعبة السورية، الناجم عن التدخل العسكري الروسي، وما قد يترتب عليه من نتائج.
يؤكد المقرّبون من دوائر القرار على فرضية الانتظار والتريّث، لكنهم يربطون، أيضاً، الموقف الديبلوماسي الأردني بعلاقات جيدة على الصعيد الشخصي بين الملك عبدالله الثاني والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبتفاهمات عميقة بين الطرفين سابقة حول الحل السياسي المنشود في سورية، بل وتقارب شديد في وجهتي النظر، وبضمانات روسية للأردن بحماية مصالحه، وخصوصاً في الجنوب، ما يجعل من توقيف الدعم الأردني بمثابة رسائل حسن نياتٍ لروسيا، أكثر منها للنظام السوري. فوق هذا وذاك، يهوّن أولئك المقربون من شأن توقف الدعم العسكري للجبهة الجنوبية، ويؤكدون أنّه ليس سابقة، بل وقع قبل ذلك مثل هذا الموقف. وفي الوقت نفسه، لا يخشى "مطبخ القرار" من انفراط الجبهة الجنوبية، أو خسارة النفوذ الأردني في الجنوب، لأنّ الأردن هو النافذة الوحيدة لأهالي درعا، والحاضنة الشعبية للمقاومة، فضلاً عن أنّ الدعم الإنساني والاقتصادي والصحّي لم يتوقف عن السكان هناك.
في المجمل، وبأخذ تلك المؤشرات والتفسيرات بعين الاعتبار، يمكن القول إنّ الأردن، بالفعل، في مرحلة انتظار للصيرورة الجديدة المترتبة على التدخل العسكري الروسي، لكنه، في الوقت نفسه، قام باستدارة جزئية وإعادة تموضع نسبية تدفعه مسافة قصيرة بعيداً عن الموقف المتشنّج من النظام السوري، أو التدخل المباشر في دعم المعارضة المسلحة، بانتظار انجلاء غبار المعارك قليلاً، مع تراجع الزخم العسكري الروسي والتفكير جدياً بالحل السياسي.
تبقى هنالك أسئلة عميقة مطروحة في عمّان، ترتبط بالجنوب السوري والخشية من سيناريو انتقال العمليات العسكرية لاحقاً نحو درعا، ما قد يفاقم مشكلة اللاجئين أو انهيار الجبهة الجنوبية وتفككها، وتمكّن داعش والنصرة من تثبيت أقدامهما هناك، ما قد ينجم عنه خسارة إحدى الضمانات القوية والفاعلة القائمة عملياً هناك، ضد موجات جديدة من الهجرة أو نمو الجماعات المعادية للأردن، أو حتى قيام أعمال عدائية عبر الحدود الشمالية.