ماذا بعد نبوءة 2022؟

26 اغسطس 2022

(نجيب بلخوجة)

+ الخط -

على مدار 30 عاماً، راجت نبوءة رقمية أطلقها أستاذ الشريعة الفلسطيني وأحد أشهر مفسري القرآن في فلسطين، بسام جرّار، مفادها بأن مصير "دولة إسرائيل" سيكون الزوال خلال الشهور التي يلتقي فيها عاما 2022 الميلادي و1443 الهجري، استناداً إلى حسابات قرآنية تأخذ في اعتبارها عدّ آيات القرآن وكلماتها، إلى جانب جمع قيَمها الحسابية وفق نظام "الجُمَّل" الذي يجعل لكل حرف وفق الترتيب الأبجدي قيمة معينة، وهو نظامٌ استُعمل قديماً للتأريخ، خصوصاً في الشعر العربي، ومن قبله لدى يهود الجزيرة العربية.

ولكن عام 1443 الهجري انقضى ولم تتحقق "النبوءة" التي لم يحسم جرّار وصفها هذا حين أطلق كتابه البحثي في هذا الموضوع أول مرّة في عام 1992، فسمّاه "زوال إسرائيل 2022: نبوءة أم صدف رقمية؟"، وهو البحث الذي توسّع فيه جرّار على مدار العقود الثلاثة التالية، فكانت جلّ حساباته اللاحقة تنتهي إلى النتيجة نفسها، والتي لم تتحقق.

كان بسّام جرّار أعدّ بحثه أول مرة خلال فترة مرابطته في منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان، برفقة 415 ناشطاً إسلامياً فلسطينياً من الضفة الغربية وقطاع غزة ينتمون لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، قرّرت إسرائيل إبعادهم عن الأراضي الفلسطينية في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1992، لكنهم حافظوا على بقائهم في تلك المنطقة الحدودية، حتى اضطرّت إسرائيل لإعادتهم إلى بلادهم على دفعات خلال الشهور التالية. ونتيجة ذلك، كتب جرّار، في بحثه الأول، أنه لم يتمكّن من الاستناد إلى مراجع، سوى ما كان مخزوناً في ذاكرته، إلى جانب آيات القرآن الكريم بطبيعة الحال. ومن أهم تلك المراجع التي أطلقت شرارة الفكرة لدى جرّار، محاضرة مكتوبة للعراقي محمد أحمد الراشد، ذكر فيها أن عجوزاً يهودية جاءت إلى أمه باكية لمّا أُعلن قيام إسرائيل عام 1948، قائلة إن هذه الدولة ستدوم 76 عاماً (قمرياً) وستكون سبباً في ذبح اليهود، ولمّا راح جرّار يعدّ كلمات سورة الإسراء التي تتحدّث عن علو بني إسرائيل (وآتينا موسى الكتاب.. فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا)، وجدها 1443 كلمة، وهو رقم السنة الهجرية التي تبتعد 76 عاماً قمرياً عن عام 1948، وتوافق العام 2022 للميلاد.

يحمّل الادعاء بالإعجاز العلمي الآيات غير معناها المُراد، ويحاول تطويعها وتأويلها لتتناسب مع الأبحاث في العلوم التجريبية

ظلّ جرّار يقول على مدار الأعوام الثلاثين (1992 - 2022) إنه لا يجزم بتحقق الأمر بنسبة 100%، لكنه ممكن بنسبة تقترب من 98%، فيما كانت أصوات إسلامية أخرى تحذّر من مغبة المضي في هذا الدرب، لأنه يمكن أن تكون له نتائج غير مرغوبة على فكرة الإعجاز العددي في القرآن الكريم، حال عدم حدوث ما يتوقّعه جرّار، وهو الأمر الذي بات واقعاً اليوم، فهل تفتح المسألة على مراجعة فكرة الإعجاز العددي تلك ونقدها؟

ثمّة نوعان من الإعجاز، راج القول بهما بشأن آيات القرآن الكريم في العقود الأخيرة. ثانيهما "الإعجاز العلمي" الذي يذهب دعاته إلى القول إن القرآن يُخبر بحقائق علمية جرى اكتشافها أخيرا مع تقدّم العلوم، ولم تكن معروفة عند نزول القرآن قبل أكثر من 1400 عام، ما يؤكّد، برأيهم، ألوهية النص القرآني وصدقية الدين الإسلامي، وهو المذهب نفسه الذي يقول به دعاة الإعجاز العددي، غير أن الذين لا يؤيدون القول بهذين الإعجازيْن المفترضيْن، من الإسلاميين وغير الإسلاميين، يوجّهون نقداً منطقياً وعلمياً متواصلاً لهما، من جهة أن الإعجاز العددي لا يقوم على قواعد ثابتة، بل على تكلُّف وانتقائية مفرطة، وهو الحال الذي ينطبق على نظرية "زوال إسرائيل 2022" من وجهة نظر رافضيها، ما يجعل حسابات الإعجاز العددي تلك ممكنةً لأي نصٍّ مكتوب، ولا يدل على إعجازه بالضرورة، هذا إلى جانب عدم منطقية أن يحتوي النص القرآني ألغازاً عدديةً، يسعى الإنسان إلى فكّها وتحليلها. وعلى سبيل المثال، جاء في الفتوى رقم 17108 على موقع "إسلام ويب" ما نصّه: "الإعجاز العددي أمر لم يتطرّق لبحثه السابقون من العلماء .. والذي نراه أن أكثر ما كتب في الإعجاز العددي لا ينضبط" بضوابط، منها أن يعجز البشر عن فعل مثله لو أرادوا.

الإعجاز العلمي يواجَه بأنه يحمّل النص القرآني معاني لا يحتملها، بإعادة تفسيره بما يتواءم مع الاكتشافات العلمية

أما الإعجاز العلمي فإنه يواجَه بأنه يقوم على تحميل النص القرآني معاني لا يحتملها، عبر إعادة تفسيره بما يتواءم مع الاكتشافات العلمية، ونزع الآيات القرآنية من سياقها ومعانيها المستهدفة. هذا فضلاً عن أن مذهبي الإعجاز العددي والإعجاز العلمي لا يقول بهما مفسّرو القرآن هؤلاء وحسب، بل إنهما رائجان عند أتباع دياناتٍ (ومعتقدات) أخرى، مثل الهندوسية والمسيحية، تجاه كتبهم المقدّسة، ما ينزع فكرة الصدقية التي يوفرها الادّعاء بالإعجاز، لأنه لا يوفر الحصرية لكتاب بعينه.

ومن أشهر أمثلة الإعجاز العلمي القول إن آيتي سورة الرحمن "مَرَج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان"، تمثل إعجازاً علمياً لأنها تشير إلى ظاهرة تحدُث عند التقاء مياه بحرين أو بحر ونهر، فيبدو أن ثمّة حاجزاً بينهما يجعلهما لا يختلطان، وهو أمرٌ لا يدلّ، برأي منتقدي فكرة الإعجاز العلمي، على أي إعجاز؛ أولاً لأنه ظاهرة يمكن مشاهدتها بالعين، فلا تشير إلى أمرٍ مجهول يكشفه القرآن، وثانياً لأن عدم اختلاط مياه البحريْن مردّه إلى اختلاف الكثافة بينهما، وهو أمر يمكن أن يتغير بمرور الوقت، بفعل حركة المواد الذائبة في الماء، ما يؤدّي إلى امتزاج المياه لاحقاً. وهكذا، يحمّل الادعاء بالإعجاز العلمي الآيات غير معناها المُراد، ويحاول تطويعها وتأويلها (كما يقول أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الملك سعود، مساعد الطيار، في كتابه "الإعجاز العلمي إلى أين؟") لتتناسب مع الأبحاث في العلوم التجريبية.

والحال إن من الموضوعي الاعتقاد بأن عدم نجاح "نبوءة" زوال إسرائيل 2022 يقدّم اليوم مؤشّراً جديداً على ضرورة التخلي عن فكرة الإعجاز العددي، كذلك الحال بالنسبة لفكرة الإعجاز العلمي التي بات ضرورياً الإنصات لما تنطوي عليه من تجنٍّ على النص القرآني، وذلك من أجل استعادة التعامل مع آيات القرآن وسوره باعتبارها تمثّل نصاً يفيض بالحكمة والتأملات الكونية المبهرة التي تتوافق مع حياة الإنسان، فضلاً عن دوره التشريعي بالنسبة للمسلمين.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.