كيف نتذكّر ثورة يناير

كيف نتذكّر ثورة يناير

27 يناير 2023

متظاهرون مصريون يلوّحون \في ميدان التحرير وسط القاهرة (30/1/2011/ فرانس برس)

+ الخط -

في الذكرى الثانية عشرة لثورة يناير في مصر، كما نتذكّر ميادينها التي بتنا فيها أياما نتذكّر أيضا أحلام (وطموحات) التيارات السياسية المشاركة فيها على اختلافها، نتذكّر أيضا الفعاليات والأنشطة السياسية المكثفة التي تمت في عامين، ولم يحدث معشارها في العشر سنوات اللاحقة عليها، رغم الإنفاق ببذخ على كل الفعاليات من دون فاعلية، نتذكّر ما حدث من انحدار في كل اتجاه للطموح والأهداف والسياسات.

في ذكرى يناير، وبعد 12 عاما من العمل البحثي والمعايشة لتفاصيلها ولقاءات مع مئات المصريين من كل التيارات السياسية، أستطيع أن أقول، بكل أريحية، إن مصر الثورة لو اختيرت لتطوّرها المنطقي، ولتدار بشكل طبيعي بواسطة حكومات مدنية منتخبة ومسؤولة أمام منتخبيها فقط، حتى ولو اختيرت رموزُها من أسوأ التيارات السياسية، لم تكن لتصل إلى هذا البؤس الحالي الذي يريد إقناع المصريين بفوائد أرجل الدجاج في أي حال، ذلك البؤس الذي كلما حدّث القائمون عليه المصريين عن الإصلاح والتغيير ردّ عليهم بتفضّله بجعلهم في حال أفضل مما في سورية والعراق واليمن وليبيا، وكأن هذا حلمهم، مع احترامنا الكامل لشعوب هذه البلدان التي ضحّت بأرواحها من أجل التغيير أكثر من عقد، وما كان المصريون ولا هم يطمحون بهذا المصير الحالي من الاقتتال والصراع والتيه والانهزام أمام الثورات المضادة، وإنما كان الحلم بناء بلدان ومؤسسات تحفظ الكرامة والعدالة والحرية للجميع.

أكتب هذا وأنا شاهدٌ على طاقة تفجّرت بعد الثورة، تمثلت في عشرات المراكز البحثية والمبادرات والأنشطة، وأحزاب ذات غالبية شبابية نشأت بعد هذه الثورة، سمعت ورأيت من شباب هذه الأحزاب في سوهاج وأسوان والمنصورة والإسكندربة والفيوم، كيف أنهم يجمعون متطوعين مصروفات العمل السياسي الذي يشتركون فيه، رغم أن بعضهم متعطّل من العمل. كان كثيرون منهم يسافرون إلى القاهرة لحضور ورش وندوات وتدريبات أو يستضيفون شخصيات عامة من مدن أخرى على حسابهم الخاص، لتعزيز قدرتهم على المشاركة في الحياة السياسية بفعالية. ليست هذه الطاقة قاصرةً على الإسلاميين وحدهم، بل شاهدناها في أحزاب جديدة بالكلية، مثل الدستور ومصر القوية والعدل ومصر الحرية والمصري الديمقراطي الاجتماعي وغيرها.

رأينا كيف أن هذه الطاقة الوطنية التي تفجّرت في عروق الشباب، لو انتقلت وسرت منهم إلى قياداتهم، لما وصلنا إلى هذه الحال، وعشرات المشاريع والمبادرات التي لا همّ لها إلا إصلاح مؤسّسات الدولة المصرية أو تغييرها جذريا نحو مستقبل أفضل لكل المصريين وتعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها، رأينا ورصدنا كيف تضاعفت أعداد جمعيات المجتمع المدني في عامين فقط بعد الثورة المصرية، وكيف تم تفعيل الراكد منها، لكن مع الأسف أغلقت سلطات ما بعد 3 يوليو (2013) الآلاف منها، لتجرف المجتمع من رأس ماله الذي كان ينقذ الدولة والحكومة في أوقات الأزمات.

كان برلمان الثورة، على علّاته، منتخبا بإرادة شعبية حرّة ونزيهة، وكان أعضاؤه أكثر نشاطا من أنشط برلمان عربي حالي

كنتُ شاهدا وجزءا من عدة مشروعات لإصلاح هذه المؤسسات من شرطة وقضاء وجيش برؤية تفصيلية تجمع خبراتٍ من داخل تلك المؤسّسات وخارجها، واستطاعت المراكز البحثية القومية والأهلية في عامين استضافة خبراء ومسؤولين من عدة دول لمناقشة تجاربهم في الإصلاح، بينما لا تستطيع جامعة مصرية الآن عقد فعالية بحثية تناقش مجرّد فكرة الإصلاح، ولو قدّر لهذه المشروعات أن تتم وتتراكم عبر هذه الأعوام الاثنى عشر الماضية، وتجد آذانا صاغية من التيارات السياسية بدلا من الاستعانة بالعسكر لضرب التحوّل الديمقراطي، لكانت كفيلة بإنتاج دولة عصرية مدنية حديثة بكل المعايير التي تسعنا جميعا.

وعلى ذكر الآذان الصاغية، كان برلمان الثورة، على علّاته، منتخبا بإرادة شعبية حرّة ونزيهة، وكان أعضاؤه أكثر نشاطا من أنشط برلمان عربي حالي، وكان الفرد منهم من المعارضة قبل الأغلبية أكثر شعبية وحضورا وتأثيرا من البرلمان الحالي بأكمله، فالجميع يذكر مصطفى النجار وعمرو حمزاوي وعمرو الشوبكي ربما أكثر من قيادات الإخوان المسلمين وهم الأغلبية. وعن معايشةٍ، كانت الأحزاب من كل التيارات حريصة كل الحرص على حضور الورش والندوات والمؤتمرات وقراءة مخرجاتها والتعليق عليها والتفاعل معها بكل الطرق، وأنشأ بعضها وحداتٍ متخصّصة للسياسات العامة، بل ناقش هذا البرلمان مسألة الديون الكريهة، وتلقى أوراقا وجلسات استماع مغلقة مع خبراء من دول وتجارب راجعت ديونها وهيكلتها بصدر رحب، بينما البرلمان الحالي يمرر اتفاقات الديون والقروض من دون حتى مناقشة شكلية.

وأقر برلمان الثورة، حتى وإن كان إصلاحيا، عدة قوانين هامة، مثل التأمين الصحّي على الأطفال دون السن المدرسية والمرأة المعيلة، وأقر تثبيت مئات آلاف من العمّالة المؤقتة، وكذلك قوانين تعيين أوائل الدفعات. بطبيعة الحال، لم يكن مثاليا، ولم تكن تلك الأشياء منّة من أحد، لكنه سياق الثورة الذي بهت على الجميع بدرجات متفاوتة.

الغالبية العظمى للمصريين تعرف أن ثورة يناير بريئة من محاولات تشويهها، وتلبيس القائمين عليها كل إخفاق تقوم به السلطة الحالية

ولو وجّهت السياسات الاقتصادية والاجتماعية وفقا لرؤى عشرات الخبراء الذين شاركوا في مؤتمرات وورش وندوات ولقاءات تلفزيونية وأصدروا كتبا ودراسات عن سياسات بديلة في كل القطاعات، لعاش المصريون حياة اقتصادية واجتماعية أقرب إلى دول الرفاه، ولأحدثوا من التغيير ما لم يكن ليحدُث في عقود، حيث كانت الطاقة الإيجابية للمصريين قادرة على اختصار الزمن، وتكثيف الجهود في بلد شعروا عامين بأنه ملكٌ لهم، وليس للطبقة الحاكمة من ال1% الأغنى فقط. فيما بعد ترتيبات "3 يوليو"، وعبر عقد، جرى اختزال الشباب من حالم وقائد للتغيير وراغب في دفع أثمانه من ماله ووقته إلى حالم بمبيت وتغذية سخيّة في أحد فنادق المؤتمرات الرئاسية، وصورة مع الجنرال فلان أو اللواء علان لإثبات أنهم أبناء الدولة أو "بتوع الأوتوبيس" على طريقة عادل إمام، حتى لا يفقدوا حرّيتهم، ففقدوا حرّيتهم وكرامتهم وفرص عملهم ببطالة عالية ومعدّلات فقر عام وفقر شباب مرتفعة وظروف عمل سيئة وغير مسبوقة في تاريخ المصريين، حيث يجري الشباب في طاحونةٍ لتحسين دخوله، فتأتي السياسات الكلية التي لا دخل لهم فيها، فتطحنهم، فتضيع تحويشة السفر إلى الخارج هربا من الظروف أو جمعية الزواج أو الشقّة أو السيارة التي لم تعد كافية. ويتجه كثيرون إلى الإحباط والإدمان، فيما يناديهم النظام للحصول على شقق وفيلات بملايين الجنيهات من ناحية، ويناديهم للتبرّع لصناديقه التي لا تشبع من ناحية أخرى.

بعد موجة الربيع العربي في العام 2011 بأقل من عقد، انطلقت أيضا موجة أخرى في السودان والجزائر والعراق ولبنان. وعلى الرغم من قدرة الثورات المضادّة بتحالفاتها الإقليمية وإسنادها الدولي على تفكيك القوى السياسية الرئيسية في مجتمعاتها، تبقى كل عوامل تأجيج الثورات والهبّات الشعبية مشتعلة، وإنْ تحت رماد الانتصار المؤقت لمن أوقفوا ذلك الحلم الذي مسّ شباب المنطقة، ومسّ المصريين مرّة بالتغيير الجذري الشامل لأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية قبل السياسية، فالغالبية العظمى للمصريين باتت تعرف أن ثورة يناير بريئة من كل محاولات تشويهها، وتلبيس القائمين عليها كل إخفاق تقوم به السلطة الحالية.