عن مانديلا وغاندي وحديث النضال السلمي

عن مانديلا وغاندي وحديث النضال السلمي

30 نوفمبر 2023
+ الخط -

كالعادة في مثل جولات الصراع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، يتبارى بعضهم في لوم الطرف الأضعف، والتشكيك في جدوى مواجهة المحتلّ، عبر استخدام ادّعاءات شتّى، من قبيل الحديث عن فارق الإمكانات بين الطرفين، ومحاولة تشويه الكيانات التي تحمل السلاح، وغيرها من الاتهامات التي فُنّدت مرارا. ولكن نغمة برزت أخيرا لدى هؤلاء، تهاجم المقاومة المسلحة، وتتغنّى بالسلمية، وتنادي بعدم استخدام "العنف" لانتزاع الحقوق المسلوبة، وضرورة اللجوء إلى ما يسمّى "الكفاح السلمي"، مستشهدين بشخصيتين تاريخيتين يرونهما قدّما نموذجين ملهمين في هذا الصدد: الزعيم الهندي المهاتما غاندي، ورئيس جنوب أفريقيا الراحل نيلسون مانديلا. من هؤلاء المذيع البريطاني بيرس مورغان، الذي استشهد بمانديلا، في إطار حديثه عن ضرورة تخلي المقاومة الفلسطينية عن "الإرهاب".

يفيد هؤلاء، في محاولتهم لإقناع الجمهور بمنطقهم، بأن تجربة غاندي في مواجهة الاحتلال الإنكليزي سلميا نجحت في انتزاع استقلال الهند، وأن مانديلا كذلك اختار "الكفاح السلمي" بدلا من العمل المسلح، لمواجهة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وأنه "حصل على ما يريد بعدما كسب قلوب العالم بذلك النهج"، وفقا لما نشر في مقالٍ دعا إلى الاقتداء بهذين النموذجين، وشاركه رجل أعمال مصري على صفحته في موقع إكس، مشيدا بالمقال، ومؤكّدا أن هاتين التجربتين لم تسفرا عن إراقة دماء ضحايا من الأبرياء!

وبغض النظر عن أن رجل الأعمال هذا من المعجبين بأشخاص سفكوا دماء كثيرة، مثل ديكتاتور تشيلي أوغستو بينوشيه، والرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل، وقائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فضلا عن استثماراته في بلاد مثل كوريا الشمالية وحتى إسرائيل نفسها! فإن أقل ما يقال عن هذا الكلام أنه تدليس صريح أو أنه ناتج عن جهل شديد بالتاريخ، والاكتفاء بالصور النمطية التي رُوّجت عن مانديلا وغاندي، وخصوصا الأول، إذ تم التركيز على السنوات الأخيرة من حياته فقط في وسائل الإعلام الغربية، وتجاهل ما كان يفعله سنواتٍ في كفاحه لمواجهة الفصل العنصري في بلاده، فقد حاول مانديلا، في البداية، اتباع نظام المقاومة اللاعنفية، تأثّرا بنهج غاندي، لكن جرائم النظام العنصري وقمعه الشديد هذه التحرّكات، ورفضه كل الحلول، دفعه إلى قيادة مقاومة مسلحة وحرب عصابات ضد النظام، بعدما شارك في تأسيس الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ونفّذ مئات العمليات ضد مؤسّسات رسمية بهدف الضغط على الحكومة، تضمّنت قصف منشآت عسكرية ومحطّات طاقة وخطوط نقل واتصالات، فضلا عن تفجيرات وهجمات مسلحة عدّة. كما استطاع الحصول على أموال من دول أجنبية لشراء أسلحةٍ دعما لجهود مقاومة نظام الفصل العنصري، وهي الأنشطة نفسها التي يلوم هؤلاء المقاومة الفلسطينية على القيام بها في الوقت الحاضر.

المنتصر من يفرض شروطه ومعاييره وقوانينه. ولذلك تحوّل مانديلا من "إرهابي" إلى أيقونة للنضال

وحتى بعد خروجه من السجن وانتخابه رئيسا لبلاده، حافظ مانديلا على قناعاته بأهمية استخدام العنف. والمفارقة أن هذه القناعة أعلنها مانديلا في أثناء زيارته قطاع غزّة عام 1999، في أثناء رئاسته بلاده، إذ قال في خطاب آنذاك "اختاروا السلام بدلا من المواجهة. باستثناء الحالات التي لا يمكننا فيها الحصول عليه، أو لا يمكن المضي قدما. ثم إذا كان البديل الوحيد هو العنف، فسنستخدم العنف". وربما لهذا، بقي مانديلا في قائمة الإرهاب الأميركية حتى بعد انتخابه رئيسا لجنوب أفريقيا، وظل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يخضع لأحكام "قانون محاربة الإرهاب". وكان على الخارجية الأميركية منح تصريح خاص للمسؤولين في جنوب أفريقيا إذا رغبوا في زيارة الولايات المتحدة. ولم يكن يسمح لأعضاء الحزب إلا بزيارة مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، وليس أي مكان آخر في الولايات المتحدة. ولم يُشطب مانديلا من هذه القائمة إلا في عام 2008، بعدما بلغ عامه التسعين.

على المستوى الفلسطيني نفسه، النتيجة أوضح من الحديث عنها، فقد مرّت ثلاثة عقود على توقيع اتفاقية أوسلو، ولم يتحقّق أي شيء، وتحوّلت الضفة الغربية إلى ساحة مستباحة لقوات الاحتلال تفعل فيها ما تشاء. وفي غزّة، استمرّت مسيرات العودة "السلمية" نحو عامين، إلا أن الاحتلال واجهها بالرصاص، وقتل وأصاب الآلاف، ولم يتحرّك العالم قيد أنملة، ولم يقدّر هذا النضال السلمي كما يزعم هؤلاء.

أما تجربة جنوب أفريقيا في المصالحة الوطنية، وما تسمّى "التسامح والمغفرة بين البيض والسود" الذي انتهجه مانديلا في أثناء رئاسته، ويحاول "عشّاق النضال السلمي" ترويجها طريقة مثلى يجب اتّباعها، فقد جاءت "بعد" الانتصار وإنهاء النظام العنصري، وليس ‏قبله، فلا فائدة من استجداء حقوق والحديث عن التسامح والعفو في مواجهة مجازر يومية ‏يرتكبها احتلال استيطاني إحلالي عنصري، والمنتصر هو من يفرض شروطه ومعاييره وقوانينه. ولذلك اعترف الجميع بمانديلا وتحوّل من "إرهابي" إلى أيقونة للنضال.

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.