عن تحوّلات الفضاء الموسيقي المصري

20 اغسطس 2023

(صلاح طاهر)

+ الخط -

نظّمت هيئة الترفيه في السعوديّة حفلاً فنيّاً كبيراً، في مسرح بنش مارك، ضمن فعاليّات موسم جدّة، تحت عنوان "كاسيت 90"، جمع نجوم الغناء في الثمانينيّات والتسعينيّات الذين دخلوا تدريجيّا، في العِقد الأوّل من الألفيّة، إلى مرحلة الخمول والأفول، بعدما كانوا في صدارة الفضاء الموسيقي المصري نحو عقديْن. كان لافتا نفاد تذاكر الحفل قبل موعده، ما يعني أن صورة أولئك النجوم ما زالت حاضرة لدى جمهورهم.

كان لافتاً في الملصق الدعائي للحفل وضع صور المطربين داخل شاشة طراز قديم من ذلك التلفاز الذي كان منتشراً في الثمانينيّات، إلى جانب حالة "النوستالجيا" التي فاض بها العالم الافتراضي بالتزامن مع الحفل، وهو ما يستحقّ وقفة لمحاولة رصد التحوّلات التي شهدها الفضاء الموسيقي المصري في العقود الثلاثة الماضية، وما جرى فيه، وما ينتظره في المستقبل.

يتعيّن القول في البداية إن الفنّ مرآة عاكسة لحالة المجتمع الفكريّة، والثقافيّة، والحضاريّة، فالإنتاج الفنّي والأدبي في فترة معيّنة ما هو إلا ترجمة دقيقة لحالة المجتمع الحضاريّة في تلك الفترة، فالفنّ، بكلّ ألوانه، إفراز مجتمعي في المقام الأوّل، بمعنى أن رواج لون أدبي أو فنّي بعينه وانتشاره يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بعوامل كثيرة يشتبك فيها الاجتماعي بالثقافي، بالاقتصادي بالسياسي، لكن المُنتَج الأدبي أو الفنّي لأي عصر يمثّل انعكاساً كاشفاً للحالة الحضاريّة للمجتمع في ذلك العصر.

تستحقّ التحوّلات التي شهدها الفضاء الموسيقي المصري في العقود الماضية التأمّل. وليس الحديث هنا عن عصر جيل الروّاد منذ الحقبة الليبراليّة الزاهية الراقية في العهد الملكي، إنما عن عصر ظهور ما سُمِيَت "الأغنية الشبابيّة" منذ أكثر من ثلاثة عقود.

الملهاوي والمأساوي في آنٍ أن أغنيات روّاد الأغنية "الشبابيّة" تحوّلت إلى "كلاسيكيّات"، بعد ظهور ذلك التلوّث السمعي القبيح المُسمى "المهرجانات"

لم يأتِ أفول نجم جيل التسعينيّات بين عشيّة وضحاها، وإنّما جاء تدريجيّا، وكانت له إرهاصات متتابعة، فمنذ عاميْن وفي صيف 2021، ظهر أربعة من مغني التسعينيّات (حميد الشاعري، وإيهاب توفيق، وهشام عبّاس، ومصطفى قمر) في أغنية جمعتهم معاً، حملت اسم "زحمة الأيّام"، وقد كانوا يُعدّون من نجوم الصف الأوّل في المشهد الموسيقي منذ عقديْن. جاءت كلمات الأغنية ذات طابع رثائي حزين، بدا أنه أقرب إلى حفل وداعي لعصرٍ بأكمله، أو بمرثيّة جماعيّة لأصحابها، فقد حملت كلماتها موجة دافقة من التحسّر على ضياع العُمر، وعدم تحقيق الأحلام، وانسحاب البساط من تحت الأقدام.

في المجمَل، جاءت الأغنية أشبه بمرثيّة ذاتيّة من مطربيها الأربعة الذين يستشعرون أفول نجمهم وذهاب عصرهم، بعدما فقدوا عرشهم الذي تربّعوا عليه سنوات، بعدما أزاحتهم عنه الفئة الجديدة التي ظهرت في غفلة، من أهل التلوّث السمعي المعروفة بمطربي "المهرجانات". انعكست الكلمات على الصورة، فجاءت مشاهد الأغنية حاملة ملامح فصل الخريف، مصحوبة بإضاءة مُعتمة مع أثاث مُحطَّم، وزجاج مكسور، ثمّ ظهر المطربون الأربعة في نهايتها مُتشّحين بالسواد في مشهد جنائزي حزين.

الظاهر من الأمر أن الأغنية حملت إهداءً إلى روحيْ صديقيْن للمطربين الأربعة رحلا تباعاً، شاعر غنائي وآخر مُلحِّن، وقد ظهرت عبارة في مطلع الأغنية كُتِبَت بالإنكليزيّة "إلى تاريخ الموسيقى العربيّة". ولكن يبدو أن الأمر أعمق من هذا. واللافت أن تلك الأغنية حقّقت نحو أكثر من مليوني مشاهدة على "يوتيوب" خلال يوميْن فقط، مع موجة دافقة من تعليقاتٍ كانت أشبه ببكائيّات مُطوَّلة.

لم أكن في بواكير الشباب من المُعجبين بالمطربين "الشبّان"، فلم يستهوني يوماً ذلك اللون الفنّي المسمّى الأغاني "الشبابيّة"، ذات الإيقاع السريع الصاخب، لكن كثيرين من أبناء جيلي كانوا يعتبرونهم من نجوم "الشبّاك"، أو المطربين المفضَّلين، وخصوصا حميد الشاعري، فهو أكبر دوراً، وأعمق أثراً، وامتدّ تأثيره إلى كلّ أبناء جيله، فهو مُطرب، وملحّن، وموزّع موسيقي.

أمسى المَتن هامشاً، والهامش مَتناً، وهو تحوّلٌ خطيرٌ يحمل دلالات عديدة سلبيّة ومؤسفة إلى أبعد مدى

المفارقة الطريفة أن كثيرين من أبناء الجيل الجديد يرون إنتاج المطربين "الشبّان" في التسعينيّات من الأعمال "الكلاسيكيّة" التي تعود إلى عصر الطرب الأصيل (!). والملهاوي والمأساوي في آنٍ أن أغنيات روّاد الأغنية "الشبابيّة" تحوّلت إلى "كلاسيكيّات"، بعد ظهور ذلك التلوّث السمعي القبيح المُسمى "المهرجانات"، والذي لا يمكن مقارنته، في أي حال، مع أعمال مطربي التسعينيّات.

ما الذي حدث خلال العقود الماضية في مصر؟ جرت مياه كثيرة في النهر، فحالة الفضاء الفنّي تعبير دقيق عن أمور كثيرة، مثل آليات الصعود الاجتماعي، ومنظومة القيم السائدة في المجتمع، ولغة الخطاب السائد، وجودة المنظومة التعليميّة والثقافيّة، واتجاه الحراك الاجتماعي وغيرها من الجوانب.

ليست المشكلة في تردّي الذوق، وانحدار الذائقة الذي أصاب كثيرين. المشكلة الأكبر هي إلف القبيح واعتياد القبح، فالمَشاهِد التي تطالعنا بين حين وآخر، من احتشاد عشرات الآلاف في حفلات مطربي "المهرجانات"، تقرع كلّ نواقيس الخطر، وتقول إن شرائح عديدة من الجيل الجديد تعاني تشوّهات كارثيّة في أذواقها، بعدما ألفت القُبح بكلّ ألوانه، فقد نشأت وترعرعت على سماع الفنّ القبيح الهابط ومشاهدته سنوات طويلة.

أمّا التحوّل الكارثي بحقّ، والذي جرى في الفضاء الموسيقي المصري، فهو تبادل المواقع بين المَتن والهَامش، فقد ظلّ الغناء الموصوف حيناً بـ"الشعبي"، وحيناً بـ"الهابط"، طوال العقود الماضية، على الهامش، بل وعلى هامش الهامش، في حين احتفظ المَتنُ بدرجةٍ ما من الجودة. ولكن الكارثي أن المواقع قد تُبودِلَت في السنوات الأخيرة بصورة بالغة الغرابة ومثيرة للدهشة إلى أقصى درجة، بعد الانتشار الوبائي لـ"المهرجانات"، المُترَعَة بالتدّني والإسفاف والبذاءة، لأسبابٍ كثيرةٍ متداخلةٍ يطول شرحها، وصارت الأجيال الجديدة في كلّ الطبقات تحفظ كلماتها بكلّ ما تحمله من سوقيّةٍ وانحطاط وبذاءة، فقد أمسى المَتن هامشاً، والهامش مَتناً، وهو تحوّلٌ خطيرٌ يحمل دلالات عديدة سلبيّة ومؤسفة إلى أبعد مدى، ويدفعنا إلى البحث في المُدخَلات التي أدّت إلى تلك المُخرَجَات، وأوّلها ما جرى في التعليم، وهو، بكلّ تأكيد، حديثٌ طويلٌ ذو شجون.