عن الذين لم يسمع بموتِهم أحد

عن الذين لم يسمع بموتِهم أحد

02 مارس 2024

طفلات سودانيات فررن من الحرب جنوب الخرطوم (28/6/2023/فرانس برس)

+ الخط -

للأسبوع الثالث يغيب السودان، إلا أجزاء قليلة في شرقه وشماله، خلف انقطاع الاتصالات. عانت ولايات غرب السودان من توقّف خدمات المكالمات والإنترنت منذ اندلاع الحرب في إبريل/ نيسان الماضي. ولحقت بها العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة في الشهر المنصرم (فبراير/ شباط). وخطورة هذا الصمت الإجباري أنه يحمل معه المجاعة، في الوعاء نفسه الذي يحمل فيه الموت بالقصف أو لانعدام الخدمات الطبية أو اعتداءات المسلّحين، خصوصاً قوات الدعم السريع.

بعد اشتعال الحرب، أصبح أغلب السودانيين يعتمدون في توفير كسرات الخبز القليلة التي يعثرون عليها على التحويلات النقدية من الأهل والأصدقاء خارج البلاد عن طريق الخدمات البنكية في تطبيقات الهواتف الذكية، وهي الخدمات التي توقفت بانقطاع خدمة الاتصالات.

تحذّر الأمم المتحدة منذ بداية الصراع المسلح في السودان من مجاعة تهدّد أكثر من نصف سكان البلاد في حال استمرار الحرب. وكانت المجاعة إحدى التحذيرات الثلاثة التي وجّهتها المبعوثة الأميركية مولي في إلى القوى السياسية والمجلس العسكري عقب انقلاب 25 أكتوبر (2021)، ومارست ضغوطاً على القوى المدنية والعسكرية من أجل الجلوس للتفاوض العاجل قبل وصول المجاعة إلى السودان، إضافة إلى أهمية تأمين البحر الأحمر، وبوادر نزاع داخل المكون العسكري. ورغم جلوس الطرفين، المدني والعسكري، لمفاوضات الاتفاق الإطاري، إلا أن ذلك لم يمنع اندلاع التوترات في البحر الأحمر، وانفجار الخلاف العسكري بحرب 15 إبريل/ نيسان، وها هي المجاعة تتبعهما.

مع اقتراب الحرب من إكمال عامها الأول، أعلنت الأمم المتحدة أن 95% من السودانيين لا يستطيعون توفير وجبة واحدة في اليوم! وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن أزمة النزوح في السودان هي الأكبر في العالم. ويعيش النازحون في المعسكرات أوضاعاً أسوأ من أوضاع المدن التي يدور فيها القتال.

بحسب أحد سكّان معسكر كساب للنازحين، فإنهم يضطرّون لطحن قشر الذرة وتقديمه لأبنائهم، بعد توقّف المساعدات الغذائية منذ أكثر من عام، وتوقفت جميع المرافق الصحّية التي تتبع للمنظمّات منذ اندلاع الحرب. أما في معسكر شنقل طوباي للنازحين، فيقول أحد سكانه: اضطر النازحون لتناول أوراق الأشجار مع توقّف المساعدات الغذائية. وحذّر ملتقى نساء دارفور من أن خطر المجاعة يهدّد سكّان الإقليم. فيما أعلنت المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين أن عدم وصول مساعدات إنسانية عاجلة يضع ملايين النازحين في دارفور أمام خطر الموت جوعا.

هكذا يزحف الموت جوعاً على المحاصَرين وسط الحرب الوحشية التي لا يملك طرفاها القوة لحسمها أو الإرادة لوقفها، فتتطاول وتزداد اشتعالاً، وسط جرائم الاعتداء والنهب التي تمارسها قوات الدعم السريع، وعملية تسليح المدنيين للدفاع عن أنفسهم، مع حالة توحّش وسعار في تداول مقاطع مصوّرة للقتل والذبح والجثث المتفحمة!

لم يكلف أيٌّ من الطرفين نفسه بالسعي إلى إنهاء أزمة الجوع القاتلة، رغم الوساطات الدولية وإعلانات المبادئ التي وقّعت. ينشغل الجيش بتعزيز مكانته السياسية بالهجوم على القوى المدنية، تارّة بتهمة عدم إدانة جرائم "الدعم السريع" وتارّة بتهمة التحالف معه. ويوزّع الاتهامات محلياً ودولياً، ليكتسب شرعية الحكم باعتباره القوى المسلّحة الدستورية الوحيدة التي تملك القوة الافتراضية لحماية المواطنين من مؤامرة كبرى تشارك فيها الدول والإقليم والمؤسّسات الدولية والقوى السياسية والنقابات والثوار. ويزيد "الدعم السريع" معاناة المواطنين بعمليات النهب والهجوم على القرى المدنية في ولاية الجزيرة بعد ولاية الخرطوم وعمليات القتل العرقي في إقليم دارفور.

يحدث ذلك كله من دون وجود وسيلة تواصل مع ملايين المحاصرين بالموت، المهدّدين بالمجاعة، حتى أن آخبار الموت أصبحت تصل للأسر خارج البلاد بعد أيام من الوفاة، بعد أن يعبر الخبر سلسلة من التواصل الشفاهي من منطقة إلى منطقة، حتى يصل إلى مكان فيه خدمة اتصال أو إنترنت.

أكثر من 30 مليون سوداني مهدّدون بالمجاعة، منهم حوالي أربعة ملايين طفل دون الخامسة يعانون من سوء التغذية. لا قبور تؤويهم إلا باحات المنازل والشوارع الجانبية، إذ يتعذّر على الناس دفن موتاهم في المقابر بسبب الحرب. ولا يسمع بموتهم أحد، لأن السودان مقطوع عن العالم.