عن إعادة تشكّل المعارضة التونسية

19 ابريل 2022

تونسيون يتظاهرون في العاصمة ضد حل الرئيس سعيّد البرلمان (10/4/2022/Getty)

+ الخط -

ربما للمرّة الأولى منذ ثورة 2011، تجد الأحزاب التونسية نفسها في وضع يفرض عليها مراجعة طريقة عملها السياسي. وإذا كان المعتاد أن تقوم البنية السياسية على وجود أحزاب في السلطة وأخرى تقدّم نفسها بديلا لها، فإن المشهد الحالي يقوم على ثنائية أخرى، هي أشبه بما كان عليه الحال قبل ثورة 2011 اعني ثنائية سلطة/ معارضة في علاقةٍ تختزل المشهد في انعدام الحوار بين من في السلطة والأحزاب والقوى التي تعارضه.
كان النظام السلطوي القائم زمن الرئيس زين العابدين بن علي يحاول إخفاء جوهره الاستبدادي الكامن، والمتمثل في سلطات الرئيس المطلقة من ناحية، وانتهاك معايير المنافسة الحرّة والعادلة من ناحية ثانية، ودور الأجهزة الأمنية من ناحية ثالثة، والطابع التحكّمي لإدارة العملية السياسية من ناحية رابعة، والتضييق على السياسيين والإعلاميين المعارضين من ناحية أخيرة، ولكنه، في الوقت نفسه، سعى إلى الظهور بمظهر النظام الليبرالي الذي يحترم الحقوق والحريات، ويحرص على استمداد الشرعية عبر الانتخابات. وهذا الوضع الملتبس، أي المظهر الديمقراطي والجوهر السلطوي، هو الذي كان يدفع المعارضة إلى التحرّك بشكل احتجاجي لكشف زيف الدعاية الرسمية.
أما في المرحلة الحالية، فإن الثنائية القديمة عن أحزاب سلطة أكثر براغماتية وأقل وعودا وأكثر دفاعا عن خيارات الدولة وأحزاب معارضة أكثر مبدئية وأقل واقعية في شعاراتها وأكثر تحريضا على خيارات الحكم قد اختفت، لأن السلطة الحالية بخطابها الشعبوي تمارس بمنطق السلطة، ولكنها تخاطب الناس بشعارات المعارضة، وهي بهذا تغلق المجال السياسي أمام الجميع.

القوى والشخصيات السياسية التي عارضت نظام بن علي كانت الأسرع إلى الانتباه إلى ضرورة التعامل مع المرحلة الجديدة بمفردات المعارضة السياسية

لقد ظلت القوى السياسية الأكثر تأثيرا، في حالة من الذهول إثر إجراءات 25 يوليو (2021)، وإذا كان بعضها قد سارع إلى تأييد الإجراءات نكاية بخصومه السياسيين، ورغبة في ركوب الموجة والاستفادة من اللحظة، فإن بقية القوى ظلت تحاول تجميع شتات أمرها للبحث عن سبل التعامل مع الوضع الجديد الذي بدأ حينها بالتشكل.
لم يكن غريباً أن القوى والشخصيات السياسية التي عارضت نظام بن علي هي التي كانت الأسرع إلى الانتباه إلى ضرورة التعامل مع المرحلة الجديدة بمفردات المعارضة السياسية في مواجهة نظام حكم سلطوي ناشئ. ومن هنا، نجد أن مواقف المنصف المرزوقي وأحمد نجيب الشابي وحمة الهمامي وأحزاب النهضة والجمهوري هي الأسرع في انتقاد الوضع السياسي الجديد. ومن هنا بدأت المبادرات في الظهور بداية بالمبادرة الديمقراطية "مواطنون ضد الانقلاب"، والتي تضم شخصيات مستقلة وحزبية ومدعومة من حركة النهضة، وفي ذكرى عيد الشهداء (9 أبريل/ نيسان) أطلق رجل السياسة المخضرم، أحمد نجيب الشابي، نداء من أجل إطلاق حوار وطني شامل "حوار جامع وناجز لا يقصي أحدا، ولا يرتهن مستقبل البلاد بيد أحد"، الغاية منه إنقاذ البلاد من أزمتها الحالية "فلا منقذ لتونس اليوم سوى شعبها، ممثلاً بهيئاته المدنية ومنظماته المهنية وقواه السياسية وشخصياته الوطنية المستقلة".

يصرّ الرئيس على المضي نحو التأسيس لنظام سياسي جديد، بما فيه صياغة دستور آخر ونظام انتخابي مختلف

غير أنّ هذه الدعوات إلى الحوار وإيجاد حلول للإنقاذ تقابلها جملة من المواقف المناوئة، فمن جهةٍ تنكر السلطة القائمة وجود أزمة أصلا، وتعتبر خصومها مجرّد فاسدين خسروا امتيازاتهم. ولهذا يصرّ رئيس الجمهورية على المضيّ في مخططه السياسي الذي يستند فيه إلى الاستشارة الإلكترونية، ويعتبر أنّ ماضي المشهد السياسي للبلاد القائم على حكم الأحزاب قد أصبح لاغياً، وأنّ المطلوب هو المضي نحو التأسيس لنظام سياسي جديد، بما فيه صياغة دستور آخر ونظام انتخابي مختلف وأساليب جديدة في الحكم، لا تعتمد النموذج الحزبي. ويقابل موقف السلطة وجود أحزاب وقوى اجتماعية مثل اتحاد الشغل، هي في حال من التردّد والارتباك وغياب وضوح الرؤية، بما يجعلها تقدّم خطاباً متناقضاً لا يمكن إقناع الناس به، فضلاً عن أن يكون قابلاً للتسويق، فلا معنى لرفع شعار أنّه لا عودة لما قبل 25 يوليو/ تموز 2021، أي إلغاء مخرجات دستور 2014، بما فيه من هيئات مستقلة ونظام حكم قائم على التعدّدية والتداول على السلطة، وفي الوقت نفسه، أن يطالب هؤلاء بحوار وطني، لكن فقط مع من يتوافق مع توجهاتهم، وهو ما يلغي من جهة دلالة الحوار (لأنّ الاختلاف هو شرط التحاور)، وفي الوقت نفسه، يفتح الطريق أمام التأسيس لحالة من الانغلاق السياسي، في ظلّ أزمة اقتصادية متصاعدة، ووجوب القيام بإصلاح اقتصادي أصبح مؤكداً، بل مفروضاً من الجهات الدائنة للبلاد.
تتحمّل المعارضة السياسية قسطاً وافراً من المسؤولية عن استمرار الأزمة الحالية في تونس، بداية من سوء تقديرها الموقف ومروراً بانتهازية بعضها، ورغبتها في توظيف ما جرى لنيل مكاسب حزبية، أدركت لاحقاً أنّها مجرّد أوهام، ووصولاً إلى تواصل حالة التشتت وغياب الرؤية الوطنية الموحدة الضرورية من أجل إيجاد سبل الخلاص من الأزمات المتصاعدة، والتي تتكاثر بشكل غير مسبوق. فهل تعي الأحزاب والقوى المؤثرة الدرس، وتتجه نحو إعادة التشكل وبناء مشهد سياسي جديد؟

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.