طوفان وزلزالان وثلاث هزّات ارتداديّة

طوفان وزلزالان وثلاث هزّات ارتداديّة

07 مايو 2024
+ الخط -

بعد سبعة أشهر حافلات بالشواهد والسوابق، والحقائق التي لا يرقى إليها الشك، تأكّدت صحّة الافتراضات الأوّلية المُبكّرة، أنّ سبت السابع من أكتوبر كان يوماً تأسيسياً، نقطةً فاصلةً بين زمنين، وحدثاً استثنائياً فارقاً. زلزل أركان دولة الاحتلال، وغيّر وجه الشرق الأوسط، وربما العالم كلّه، نظراً إلى ما احتشد فيه من مُعطيات صلبة، وما فاض على جانبيه من تداعيات لا تزال تتراكم في سياق التحوّلات الجارية، وتتفاعل بزخم ذاتي ماضٍ في إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية، وترتيب الأولويات ومراجعة الحسابات والتحسّبات، والمفاهيم السائدة. 
أطنب المُحلّلون في ذلك اليوم قولاً، قليله قدحٌ وكثيره تعظيمٌ ومدحٌ. لذلك، تذهب هذه المطالعة من دون استهلال إلى الإضاءة على الزلزالين الارتداديين الناجمين عن مفاعيل "طوفان الأقصى"، يوم "أخرجت الأرض أثقالها" في ذلك السبت الأسود، في صبح ذلك اليوم الفلسطيني الأبيض، كي نقرأ معاً، ثمّ نعيد القراءة بتمهّل وتمعّن، في أكثر حدثين تأسيسيين أهمّية، تاليين على الأول، علماً أنّ في الأفق القريب حدثاً زلزالياً ثالثاً من العيار الثقيل ذاته، وربما ثلاث هزّات ارتدادية أو أكثر.
الزلزال الأوّل الناجم عن "طوفان الأقصى" أو قُلْ الحدث التأسيسي الناجز في سلسلة الزلازل والهزّات الوشيكة، جسّدته ليلة المُسيّرات والصواريخ الإيرانية، التي عبرت سماء المشرق العربي كالشهب المُغيرة، وغمرته بالمفاجأة التاريخية، تلك التي وصِفت حينها في هذه الزاوية باحترام "الدعسة العسكرية الإيرانية الناقصة" ("العربي الجديد"، 23/4/2024)، وثمّنتها بلا مبالغة، ليس لأنّها غيّرت شيئاً دراماتيكياً في مجرى حرب الإبادة على غزّة، بل لأنّها حقّقت ما هو أكثر أهمية، إذ ضربت في حيّز الوعي الإسرائيلي. زعزعتْ الثقة في النفس. قوّضت المُسلّمات والخرافات المتعلّقة بالتفوّق النوعي الكاسح والسيطرة الجوّية المُطلَقة، كما كشفت هذه الضربة الاستراتيجية هشاشة القبّة الحديدية وتهافت المِنعَة الذاتية، وفوق ذلك كلّه، أنزلت الدولة العبرية من منصّة الذخر الاستراتيجي إلى دَرَكِ العالة المُستدامة.
اتّضح، في تلك الليلة، أنّ حاملة الطائرات، الرابضة عند شاطئ البحر المتوسط، قد احتاجت للمرّة الثانية، في غضون ستّة أشهر، إلى الحماية العسكرية الغربية، والتدخّل المباشر بالعدّة والعتاد والرعاية الحثيثة، الأولى تجلّت غداة "طوفان الأقصى" حين تقاطر المَدد بحراً وجوّاً لإعادة بناء سلسلة ظهر المشروع الصهيوني وقد انخلع يومها من مكانه، والثانية أتت عشية سبت المُسيّرات الإيرانية، التي هبّ حلف الناتو لصدّها على عجل، لإنقاذ دولة عاجزة عن حماية نفسها بنفسها، على غير ما كان قد استقرّ في عقيدتها الحربية، وفي وعي مجتمعها الذي أصابه الهلع، فدخل، بقضه وقضيضه، إلى تحت الأرض، رغم ستّة أنظمة دفاع جوّية، وطارت طائراته في الجو خوفاً من ضربها بالصواريخ البالستية على المدرّجات. وأحسب أنّ هذه السابقة الإيرانية، التي كانت مُستبعدة حتّى آخر لحظة، قد أسقطت المفاهيمَ السابقة عن سطوة القلعة الحصينة. بدّلت توازنات المشهد الإقليمي في السياق الأوسع. أطاحت مركزية عصا الغرب الطويلة، وأظهرت دولةَ الاحتلال عاريةً بلا مناعة ذاتية. حفرت في الوعي الجمعي، وقامت بعملية كيّ وعي معاكسة.
تجسّد الزلزال الثاني لـ"طوفان الأقصى"، أخيراً، على نحو مرئي عبر انتفاضة طلاب الجامعات الأميركية، الجارية فصولاً، والمتّسعة أكثر فأكثر، ليس في داخل البرّ الأميركي الشاسع، وإنما في مختلف دول الغرب والشرق، حيث تبدو هذه الانتفاضة، المُبشّرة بربيع طلابي عالمي واعد، حدثاً تأسيسياً آخر، يشي ببدء تحوّل تاريخيّ، يُحاكي بديناميته الذاتية حاصل مسار الثورة الطلابية في الستينيات، الأمر الذي أشعل، بعد لَأيٍ شديدٍ، ضوءاً قوّياً في نهاية النفق الفلسطيني المُعتم الطويل، وأسقط القناع عن وجه دولة الاحتلال والإجرام. أنزلها في الحضيض، ودمغها بمقارفة جريمة إبادة جماعية مُوثّقة بالصوت والصورة.
قد لا تتوقّف الهزّات الارتدادية للزلزال التأسيسي الأول عند هذا الحدّ، وإن في درجات أقلّ حدّة على مقياس ريختر، إذ من المتوقّع أن تُصدر المحكمة الجنائية الدولية مُذكّراتها الحمراء بالقبض على نتنياهو وزمرته الفاشيّة، لجلبهم إلى قوس العدالة، وقد تضمّ القائمة السوداء للأمم المتّحدة، المُقرّر صدورُها قريباً، اسم "الدولة الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط، وربما تُعلَّق عضويتها في "فيفا"، وتُحرَم من المشاركة في فعّاليات الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس، ناهيك عن حكم محكمة العدل الدولية.