شيء من الإنسانية

08 يوليو 2023
+ الخط -

عادةً حين تقرأ أي شيء، مقالاً، كتاباً، رواية، نصاً قصيراً أو طويلاً، تغوص في زواياه وتتخيّل مشهداً ما من وحي قراءتك. وتختلف المشاهد، بحسب كل قارئ، فلا أصابع اليد الواحدة تشبه بعضها بعضاً، ولا الأشقّاء متناسخين عقلاً ونفساً. ومتى كان الموضوع شائقاً أو مستحوذاً على شغفك، سيكون الخيال أكثر سعةً ورحابةً. في أي نوع من القراءات، حزينة أو سعيدة أو عادية، ستشعر بأشياء متناغمة بين مادّياتٍ ملموسةٍ تشهدها في يومياتك وخيالٍ مولود من أحلام أو أوهام. بالطبع، معظم القرّاء قد يصلون إلى خلاصة واحدة في أي موضوع، لكن طريقة وصولهم ومشاعرهم خلال رحلة القراءة ستتفاوت بين فردٍ وآخر. ويحدُث أنه إذا أصاب النص نقاطاً محدّدة في وعي الإنسان، أو لاوعيه، أن تتبدّل سلوكاته ونظرته إلى الأمور.

يشبه الأمر نوعاً ما المشاعر التي تنتاب من يحبّ كرة القدم، بتفاعله مع كل أحداث مباراة ما، وصولاً إلى حديثه عنها حتى حلول موعد مباراة مقبلة. لكن للصورة والفيديوهات غير السينمائية أو الوثائقية تأثير أكبر. واقعيّتها متجرّدة، بمثابة ضربةٍ خفيفةٍ على الرأس. لا مجال للخيال أو الوهم فيها. هناك حقائق ملموسة تراها وتسمعها، ولا قدرة لك على تغييرها. من هذه الفيديوهات ما قد ينقل إليك مشاهد صادمة تمسّ الحياة الإنسانية وبجوهرها، تحديداً إذا كانت متعلقةً بأطفالٍ جرى الاعتداء عليهم. في المنطق، لا يعود وعيُك قادراً على منحك مساحة تفكيرية لازمة وواجبة، بل يسمح لك بتأطير فطرتك في الدفاع عن فردٍ مظلوم، لا قدرة له على الدفاع عن نفسه، وتشعر بالغليان في داخلك، وكأن الأمر يعنيك مباشرة. ويحدُث، مهما ادّعى كثيرون عكس ذلك، أن تدعو في قرارة نفسك، أو علناً في محيطك، إلى تطبيق الإعدام على كل من يعتدي على طفل. تنسى لوهلةٍ نقاشات كثيرة ونظريات عدّة حول "احترام حقّ الإنسان بالحياة ولو كان سجيناً"، لأن من يتعدّى على طفل يُمكن أن يكون أي شيء إلا إنساناً.

تُراقِب الدول والأنظمة، ومنها لبنان، في كيفية تعاطي السلطات مع أي حادثةٍ مماثلة، فلا تجد أحكاماً قضائية صارمة، بل فقط تدخّلات لتبرير الاعتداءات. تدخّلات بعناوين طائفية ومناطقية وعشائرية، ومحاولات لطيّ القضية باسم "السترة من الناس". أما المُعتدَى عليهم فلا حقّ لهم بالاعتراض، بل الخضوع وقبول ما حصل وكأن لا شيء هاماً.

بعد عقود، سينمو المعتدى عليهم، من يبقى حيّاً منهم، وسيعيش معظمهم حالاتٍ نفسيةً صعبة. حياتُهم مدمّرة، وكأنهم جاؤوا إليها لعيش معاناةٍ لا يستحقها أي شخص، فكيف بأطفال؟ كبت ما تعرّضوا له سيؤدّي بهم إلى الموت الداخلي البطيء قبل مغادرة الدنيا بأسى. أما المعتدون، فيسرحون ويمرحون، ومنهم من "يتوب" دينياً تلبية لرغبة مجتمعٍ لا يهزّه اعتداء على أطفال، ومن ثم تنتهي حياته "متمّماً واجباته الدينية".

لا، ليس طبيعياً أن يكون مجتمع بهذه الدرجة من "التسامح" مع أي معتدٍ على الأطفال خوفاً من "كلام الناس". ليس طبيعياً أبداً أن يبحث المجتمع عن تبريراتٍ لمعتدٍ، في سياقاتٍ غبيةٍ من الاستنتاجات وطرق التفكير. وليس طبيعياً أن يخضع أي نظامٍ أو دولةٍ لمجتمع ما، خشية من تمرّده عليها. ليكن التمرّد، أي المشكلة، حقّ طفل واحد في الدنيا أهم من حقوق كل المجتمعين ضدّه لطمس اعتراضه واحتجاجه. حقّ الأطفال في هذا العالم ألا يعيشوا في ظلال أُسرٍ تلدهم لأنانيةٍ ما، ولا أسر تقمعهم بذريعة أن الصيت في المجتمع أهمّ من إنسانيّتهم وحقّهم البديهي في الحياة.

لا حجّة لأي معتدٍ على طفلٍ، مهما كان موقعه ورتبته في فانيةٍ لا تُغني ولا تسمن إذا كان محورها مادّية ما، لا سعياً إلى فهم حقيقة الإنسانية. أن تكون بشرياً ليس بالضرورة أن تكون إنساناً، والطفل هو المثال الأنقى عن كمال الإنسانية.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".