دربكة ما بعد الميناء العائم

دربكة ما بعد الميناء العائم

14 مارس 2024
+ الخط -

بعيداً عن اللغط الذي يتكاثر بشأن الميناء العائم الذي تعتزم الولايات المتحدة إنشاءه قبالة سواحل غزّة، فإنّ السؤال الحقيقي يتعلق بما بعدَه وليس بالأهداف المفترضة له، وقد ذهب كثيرون إلى أنه حلقة من مؤامرة كبرى لا تبدأ من تهجير الغزّيين إلى أوروبا، ولا تنتهي بالتمهيد للسطو على غاز المتوسط، بل التآمر على مصر وتركيا وتهميشهما!

التأويلات كثيرة. بعضها محقٌّ في مخاوف أصحابها، لكنّ جُلّها نتاج خيال متطرّف في التحليل السياسي، كي لا نقول ساذجاً يتناسى الحاجة الماسّة للغزّيين إلى ميناء، بالأمس واليوم وغداً، وإنّ خطّة إدارة بايدن لإنشائه تتعلّق غالباً باليوم التالي لحرب الإبادة على غزّة، وإنّه قد يتحوّل إلى دائم، لا لأنّ واشنطن ضالعة في تهجير الغزّيين، وهي ليست في حاجةٍ لميناء لتفعل ذلك، بل لأنّ خططها قد تشمل توفير بنيةٍ تحتيةٍ للقطاع، بالاشتراك مع قوى في الإقليم، لإنفاذ رؤيتها لمرحلة ما بعد حرب الإبادة. وهذا لا يعني، بالضرورة، أنّ الولايات المتحدة بريئةٌ من الدم الفلسطيني، لكنّه قد يعني أنّ خطَطها لا تتطابق، بالضرورة، مع خطط إسرائيل لليوم التالي.

السؤال هنا كيف يمكن للجانب الفلسطيني، وقادة حركة حماس تحديداً، التعامل مع هذا المستجد، خصوصاً أنّ تعقيداتٍ لوجستية ستبرُز فور العمل به، ومن شأنها إضعاف قبضة الحركة داخلياً، فمن هي الجهة التي ستتولّى استقبال المساعدات وتوزيعها؟ ثمّة احتمالاتٌ عدّة، أهمها اثنان، في الإجابة على سؤال كهذا: يتعلّق أولهما بالخطط الإسرائيلية لما بعد "حماس" وتقوم على الاستعانة بمجموعات محلية يمكن التفاهم معها، تتكوّن من ممثلين عن العائلات الكبيرة والعشائر، والأخيرة لا تُعرف بهذا الاسم في غزّة وعموم فلسطين بل تسمى "حمائل" ويكون هؤلاء حصان طروادة لإخراج "حماس"، بل السلطة الفلسطينية أيضاً من علاقات القوة والنفوذ في غزّة ما بعد حرب الإبادة، فنتنياهو يعارض (حتى الآن) أي دور مفترض للسلطة الـفلسطينية هناك، فهل هذا الاحتمال وارد؟ إسرائيلياً، لا يزال على الطاولة، لكنّه على الأرض مستبعد، فبعد عام 2007 قلّصت "حماس" نفوذ حركة فتح في القطاع، كما لاحقت أيّ سلاحٍ تعتبره غير شرعي في مناطق سلطتها، ومن ذلك سلاح الحمائل الكبرى وسواها. ونظراً إلى طبيعة الثورة الفلسطينية نفسها التي نشأت عابرة للعائلات وصهرتها في بوتقة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسّساتها نحو خمسة عقود، فإنّ العائلات أو الحمائل لم تتمتع بنفوذ سياسي بالمعنى الحقيقي، فأبناء هذه التشكيلات الاجتماعية انخرطوا فعلياً في العمل السياسي الوطني، لا المناطقي أو العائلي.

سينتهي مسعى إسرائيل للاستعانة بمثل هؤلاء إلى الفشل إذا اقتصر على المخاتير وممثلي الحمائل، وسيتحوّل إلى عبءٍ عليها، وإلى شُبهةٍ بمن يشارك فيه إذا استعانت إسرائيل، بالإضافة إلى هؤلاء، بخارجين عن القانون أو مجموعاتٍ مشتبهٍ في ولائها، فصمود المقاومة وإجماع الغزّيين على "وطنية" حالتهم سيجعلهم يُفشِلون هذا المسعى، فمن هو الغزّي الذي سيرضى على نفسه وعائلته وحمولته الاتهام بالخيانة، من أجل ربطة خبز وعبوات غذائية معلّبة؟

إذا كان هذا شأن المسعى الإسرائيلي، فلا يُعرف بعد إلاما سينتهي المسعى الأميركي المضمر، وهو الاحتمال الثاني، فهل سيتم توزيع المساعدات من خلال قوىً في الإقليم لها أدواتها على الأرض في غزّة، على أن يحظى دورٌ كهذا بغطاء إقليمي وتواطؤ إسرائيلي مضمَر؟ احتمال كهذا ليس مستبعداً على الإطلاق، وقد يُمرّر حتى بقبولٍ غير معلن من حركة حماس، خصوصاً إذا جرى تسويقه باعتباره أقلّ الأضرار، وبأنه لا يستهدف الحركة، وليس شريكاً في محاولات استبعادها، بل فاعلاً محلياً يبحث لها عن مخارج تُبقيها طرفاً فاعلاً في اللعبة السياسية في اليوم التالي، بعد تغييراتٍ قد تكون شكلية تضمن بقاء الحركة، بل ونفاذ برنامجها من دون أن تكون هي في الواجهة.

إذا صحّ هذا فإنه لا يهدّد "حماس" في المدى المنظور، بل السلطة الفلسطينية في صميم دورها المفترض، ممثلاً للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وهي تخلت عن دورها هذا خلال حرب الإبادة، ولا يتوقّع أن تستعيده بالوجوه نفسها، حتى لو تضمّن المقترح الأميركي تنظيم انتخابات تشريعية بعد ذلك.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.