حين يُخدش جدار "أيباك"

حين يُخدش جدار "أيباك"

28 مارس 2024

لافتة ضد منظمة إيباك في مظاهرة احتجاج أمام مقرّها في واشنطن (13/3/2024/الأناضول)

+ الخط -

يعدُّ خروج مظاهرات مناهضة لممارسات لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، ودعمها الإبادة في غزّة، وتدخلها في الحياة السياسية الأميركية، حادثاً لافتاً في الولايات المتحدة، غير أن اللافت أكثر أن الاحتجاجات لم تقتصر على تلك الأمور فحسب، بل تعدّتها إلى الاحتجاج على ممارساتها الموجّهة ضد التيارات التقدمية في البلاد. وإذ ظهر تدخّلها في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي قوياً وفاقعاً ضد التيار اليساري فيه، إلا أن الأميركيين الذين شهدوا على دورها في تحشيد دعم قادة بلادهم الحرب الإسرائيلية والإبادة في غزّة لمسوا كيف فرضت مجموعة الضغط هذه عواقب على كل من ينتقد هذا الدعم وانتهاك الإسرائيليين الأعراف الدولية خلال حربهم على قطاع غزّة، من أجل لجم الجميع ومصادرة حقّهم في التعبير.

وتأتي أهمية هذه الاحتجاجات واستثنائيّتها من حقيقة أن عقوداً طويلة كانت تُمنع فيها الإضاءة على مجموعة الضغط اليهودية الأقوى هذه، وعلى نشاطها في مجال التدخّل في تأمين الدعم الأميركي غير المحدود مادّياً ومعنوياً للكيان الإسرائيلي، ودورها في وضع السياسات الخارجية الأميركية لجعلها تتماشى مع مصالح دولة الاحتلال في المنطقة العربية والعالم. وإذ كان مجرّد الإضاءة على هذا النشاط ممنوعاً في الإعلام الأميركي، فما بالك في توجيه الانتقادات لها؟ وبينما كان الانتقاد من المحرّمات، كان أي "انتهاك" لتلك المحرّمات يصنّف، من فوره، من تُهَم معاداة السامية الكثيرة والجاهزة التي تستوجب العقوبة. ومن هنا، تعد تلك الاحتجاجات خرقاً في ذلك السائد، وعملاً شجاعاً ربما تكون له مفاعيل مستقبلية.

تحالف "إرفضوا أيباك"، يضم 25 مجموعة تقدّمية، من بينها حركة "إن لم يكن الآن" اليهودية و"حزب العائلات العاملة" و"الصوت اليهودي للعمل من أجل السلام"

وخرجت بجوار مقر "أيباك" في واشنطن مظاهرتان تزامناً مع انعقاد مؤتمر اللجنة، في 12 مارس/ آذار الجاري، المؤتمر الذي تنظم فيه اللجنة اللقاءات مع أعضاء الكونغرس، وتحدّد الدعم الذي ستقدمه وهوية متلقيه، من أجل التأثير على أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ قبل الانتخابات المقبلة. ولم تقتصر المظاهرات على واشنطن، بل خرجت مظاهرات في مدنٍ أخرى أيضاً، مثل نيويورك نهاية فبراير/ شباط الماضي، وغيرهما من المدن. ورفع المتظاهرون في جميع المظاهرات لافتاتٍ تتهم "أيباك" بتمويل الإبادة في غزّة، وتطالب بوقف إطلاق النار في القطاع ووقف الإبادة فيه، وكذلك بوقف الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بشكل عام. وللمفارقة، أغلب منظمّي تلك المظاهرات هم من اليهود الأميركيين من تحالف جديد مناهض لـ"أيباك". هذا التحالف الذي أُعلِن عن تشكيله بداية شهر مارس/ آذار الحالي تحت اسم تحالف "إرفضوا أيباك"، يضم 25 مجموعة تقدّمية، من بينها حركة "إن لم يكن الآن" اليهودية و"حزب العائلات العاملة" و"الصوت اليهودي للعمل من أجل السلام" و"الحملة الأميركية للعمل من أجل حقوق الفلسطينيين" و"حزب العدالة الديمقراطي" و"حركة شروق الشمس" السياسية المهتمّة بالتغير المناخي، وغيرها من الحركات. هذه المنظمات التي قال أعضاء فيها خلال المظاهرات إنهم غيَّروا قناعاتهم بعدما شهدوه من ظلم إسرائيلي تاريخي بحق الفلسطينيين، في فلسطين ومناطق اللجوء، وبعد الحرب الجارية على غزة، والتي قتلت أكثر من 31 ألف شخص من المدنيين الأبرياء.

صحيح أن هدف التحالف الجديد الأساسي هو الحد من تدخل "أيباك" في الانتخابات الأميركية عبر دعم الجمهوريين ضد التقدّميين في الحزب الديمقراطي، وتحريض بعض الديمقراطيين ضد زملائهم اليساريين في الحزب، إلا أن الهدف البعيد هو المحاولة لتأسيس حصنٍ دفاعي يحميهم على المدى الطويل، ويعزّز استقلالية المرشّحين عن المال الانتخابي الذي خصّصت "أيباك" منه مائة مليون دولار لإنفاقها خلال انتخابات سنة 2024. غير أن ظهور التحالف لم يكن سوى ردّ فعل على إسكات الصوت المعارض للحرب على غزّة، فقد قال التحالف في بيان التأسيس: "لقد رأينا كيف تفعل أيباك كل ما في وسعها من أجل إسكات المعارضة المتنامية في الكونغرس ضد هجوم نتنياهو على غزّة الذي قتل أكثر من 31 ألف فلسطيني، حتى في ظل تأييد الغالبية الساحقة من الناخبين الديمقراطيين وقف إطلاق النار ومعارضتهم إرسال مزيد من الشيكات على بياض إلى الجيش الإسرائيلي".

رُفعت في مظاهرات في الولايات المتحدة لافتاتٌ تتهم "أيباك" بتمويل الإبادة في غزّة، وتطالب بوقف إطلاق النار في القطاع

ربما يأتي تشكيل هذا التحالف في سياق الاحتجاجات في الغرب ضد الحرب الإسرائيلية على غزّة، والتي توقّع محلّلون وسياسيون غربيون أن تؤدّي إلى تحولها إلى احتجاجات ضد حملات التضييق على الحرّيات العامة وحرية الرأي ومصادرة الحقوق في مختلف دول الغرب. هذه الحملات التي اتخذت الحكومات في الغرب من جائحة كورونا مبرّراً لفرضها ولسلب الطبقات العاملة فيه حقوقها المكتسبة عبر سنواتٍ من المعاناة والنضال لتحقيقها. وكان تعاظم الهجمات على حرية الرأي والتعبير مع الحرب الإسرائيلية على غزّة، ومنع الناس من إبداء المعارضة لها أو التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين أو المطالبة بوقف إطلاق النار مؤشّراً على أن تمادي هذه الحكومات لا يمكن توقيفه إلا برفض تلك السياسات على نطاق واسع.

ربما لا تكون هذه الاحتجاجات والتحالف المعارض لـ"أيباك"، سوى خدوش على جدار هذه اللجنة الحصين. وربما لا تكون سوى بداية لزيادة الوعي تجاه أدوات السيطرة الإسرائيلية والتأثير على الرأي العام الغربي لجعل روايتها للصراع العربي الإسرائيلي هي الرواية الوحيدة والسائدة. وإذا ما بدأ المشوار مع "أيباك"، فهنالك سجل طويل لباقي أدوات الضغط والسيطرة الإسرائيلية وأدوات الدعاية والرقابة على الإعلام والنشاط السياسي والاجتماعي التي تقف وراءها مؤسّسات إسرائيلية لا تكلّ ولا تنام ولا تتهاون، والتي تنتظر من هذا التحالف أو غيره الالتفات لها ولمخطرها. مؤسّسات لها حساسية تجاه أي صوت معارض للسياسات الإسرائيلية، مهما كان هذا الصوت خافتاً، وكائناً من كان صاحبه، إذ يعرفون هم على أي بنيانٍ هشٍّ بنوا أسطورتهم التي يشغلهم هاجس دائم في احتمالية تضعضع هذا البنيان وسقوطها في أي وقت.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.