الموت الفلسطيني... الصمود الفلسطيني

الموت الفلسطيني... الصمود الفلسطيني

01 فبراير 2024
+ الخط -

سقط القناع عن القناع/ سقط المتاع./ لا إخوة لك يا أخي/ لا أصدقاء يا صديقي/ لا قِلاع، لا الماء عندك ولا الدواء (...)/ حاصر حصارك (...)/ فأنت الآن حرُّ. ... محمود درويش

يتواصل العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، بدعم أميركي غربي مكشوف ومعلن، يتواصل منذ ما يقرب من أربعة أشهر رافعاً شعار إبادة الفلسطينيين، ولا يتردّد الصهاينة في استخدام كل الوسائل الحربية، التي تقرّبهم من هدف الإبادة الجماعية. تحوّلت غزة طوال زمن العدوان المتواصل إلى مقبرة جماعية، إلى محرقةٍ. ولم نعد نرى ونسمع في قطاع غزّة إلا التراب والخراب والدم، مصحوباً بأنين من تتوالى أصواتهم تحت ركام الحجر والتراب. اختلطت أصوات الموت بروائح التراب بالنداءات المبحوحة والأوجاع المؤلمة، التي يعلو صداها ويخفُت، ثم يعلو ويخفُت.. ولم تكتف إسرائيل مع حلفائها بما ذكرنا، بل عملت أيضاً، على وقف الماء والكهرباء والغاز، ووقف متطلبّات التطبيب والعلاج، إضافة إلى منع السفن والقوافل المحمّلة بالمساعدات الغذائية ولوازم التطبيب الضرورية، الأمر الذي أدّى إلى محاصرة من تبقّى من الفلسطينيين داخل مدن غزّة وقراها ومخيّماتها.

تحوّلت غزّة إلى فضاء للأوبئة بعد تهديم أغلب بناياتها، وتهديم مستشفياتها ومدارسها ومنشآتها العمومية... ووسط الجحيم الذي أقامته خلية الحرب الصهيونية الأميركية والغربية، يجد المتابع للحرب القائمة نفسه أمام واحدةٍ من صور الصمود الفلسطيني، التي يصعب وصفها ووصف الأثر، الذي صنعته وتصنعه اليوم في سياق تاريخ المقاومة الفلسطينية، حيث يقف الفلسطينيون أمام آلة الموت الصهيونية، أمام كيان استعماري يرتبط وجودُه بأدوار ووظائف مُحدّدة ومُتحرّكة.. أدوار ترتبط بالمهام التي أنشئ من أجل القيام بها، منذ مطالع القرن الماضي.

تحوّلت غزّة إلى فضاء للأوبئة بعد تهديم أغلب بناياتها، وتهديم مستشفياتها ومدارسها ومنشآتها العمومية

نُعاين اليوم في غزّة مظاهر النكبة الثانية، نُعاين المهجّرين والنازحين، كما نُعاين المقابر الجماعية تحت أنقاض خراب البنايات، التي تتعرّض للقصف من السماء ومن الأرض والبحر.. وتواصل الوقوف صامدة أمام جبروت المستوطنين وجنونهم، وقد أصبح من الواضح أن العرب اليوم نفضوا أيديهم من القضية، ومن مختلف صور العدوان الصهيوني، التي تتم بجوارهم وأمام أعينهم، من دون أن يفكّروا حتى في الحدود الدنيا للاستنكار والتنديد بالجرائم التي تحصل أمامهم. أو يفكّروا في تقديم المساعدات التي يحتاجها الفلسطينيون المحاصرون في غزّة، من دون أن نتحدّث عن تفعيل دور جامعة الدول العربية والعمل على تنفيد قرارات القمة العربية الإسلامية في الرياض أخيراً.

وقفنا في الأشهر الأربعة الماضية على عينة جديدة من صور الموت الفلسطيني، تضاف إلى عشرات صور الموت في الحروب والمعارك، التي توالت فوق أرض فلسطين وبدون انقطاع، الحروب والمعارك التي ساهمت فيها أجيال من الفلسطينيين، وعرفتها المخيّمات الفلسطينية في الأردن ولبنان، كما عرفتها المدن والقرى الفلسطينية أزيد من سبعة عقود، أي منذ أن خَلَّف الانتداب البريطاني النواة الصهيونية المُؤَسِّسة لكيان الاستعمار الاستيطاني فوق أرض فلسطين. كما نقف فيها على كثيرٍ من صور المواجهة والصمود، وقد استطاعت، رغم محدودية عتادها، أن تحوّل عدالة قضيتها إلى سلاحٍ قادرٍ على الوقوف في وجه قِوى الغرب الإمبريالي وسياساته في المشرق العربي. ولم يمنعها منطق ميزان القوى، ومنطق انعدام التكافؤ بين الشباب المقاوم وآلة الحرب، التي في حوزة دولة الاستيطان ومن يقف وراءها وبجانبها، من ابتكار ما يسمح بإمكانية المواجهة. وقد رأينا ما تحقّق بفعل مبادرة طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، حيث عادت القضية الفلسطينية لتطرح أمام العالم أجمع مشروع التحرير، المشروع الوطني الفلسطيني، وكان الصهاينة قد اعتقدوا أن تدابير الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزّة آخر حلقة في مسلسل السلام، الذي يؤهلهم للتطبيع مع الأنظمة العربية.

كشف عمق الرَّجة التي حصلت بفعل الطوفان للعالم أن الكيان الصهيوني كان وما زال يخطّط لإبادة جماعية لشعب كامل. وترتّبت عن جرائم الحرب التي يُواصل القيام بها الدعوة التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، مُطالبة بوقف حرب الإبادة الجماعية. ونحن نتصوّر أن هذه المبادرة والحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الماضي يساهمان في مواجهة جوانب من الأدوار التي يقوم بها الإعلام الغربي، الذي يواصل تكريس السردية الصهيونية في الغرب وفي العالم، سردية الاستيطان والحرب، ويطلق عليها اسم "حماس" وصِفة الإرهاب، مُدّعياً أنه يردّ على "طوفان الأقصى" وأنه يدافع عن نفسه، في وقتٍ يعرف الجميع أنه يستوطن الأرض ويُركِّب التاريخ الجديد بقوة الحديد والنار، وحكايات أرض الميعاد وأساطيرها!

لن تذهب أرواح آلاف الضحايا الفلسطينيين هباءً، ولن تتخلّى المقاومة الصامدة عن مواصلة حضورها المتطوّر والمبدع

لا أحد يستطيع التنبؤ اليوم بنهاية الحرب، خلية الحرب الصهيونية تقرّر مواصلة جنونها وتجريب أسلحتها، وهي لا تخجل من تَقمُّص دور الضحية، تضرب بصورة عشوائية وتَدَّعِي أنها تدافع عن نفسها. تقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتهدم وتحرق متطلّعةً إلى تحقيق الإبادة الجماعية.. وقد أصبحت اليوم مطالبةً بتنفيذ بعض تدابير الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية. أما البرنامج الفلسطيني المطلوب اليوم قبل الغد، البرنامج الداعم للصمود الفعلي القائم، فنتصوّر أنه ينبغي أن يكون في مستوى الفعل المقاوم، الذي أعاد القضية إلى الوجود بعد أن اعتقد الإخوة قبل الأعداء أنها انتهت.

لن تذهب أرواح آلاف الضحايا هباءً، ولن تتخلّى المقاومة الصامدة عن مواصلة حضورها المتطوّر والمبدع، وأول خطوات مواصلة الحضور تتمثل في تركيب الوحدة الوطنية المناسبة لمقتضيات الحال، وذلك بعد سنواتٍ من الانقسام الذي لم يعُد له مبرّر اليوم، أمام كل صُور الموت ومظاهر الخراب.. مختلف الأطراف المُبادرة والصانعة لفعل الطوفان وتداعياته مَدْعُوَّةٌ لتركيب الوحدة الوطنية الجديدة، نقول الجديدة لأننا نعرف أن تأسيس الفعل الفلسطيني المناضل، منتصف ستينيات القرن الماضي، كان يحمل معطيات كثيرة جديدة، ناشئة في قلب إرادة التحرير إذ ذاك. واليوم، وفي ضوء التحوّلات التي عرفتها القضية، وعرفها محيطها العربي والإقليمي والعالمي، ستكون مطالبة، أيضاً، بإنجاز قراءات جديدة لمختلف التحوّلات الجارية في العالم، ومختلف التحوّلات القائمة في الأرض المحتلة، من أجل بناء طريق جديدة لوحدة فصائل التحرير والمقاومة، وبناء طريق الوحدة الوطنية الجديدة، عنوان صمودٍ يضعنا أمام أبواب التحرير، فهل تستطيع القيام بذلك؟

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".