الحريّة منّة الحاكم

الحريّة منّة الحاكم

20 اغسطس 2023
+ الخط -

هل يمكن أن يكون الحاكم أشدّ إيمانًا بالحرية من المحكوم؟ كان هذا السؤال يدور في ذهن بائع الطيور الحيّة، الذي هبطت عليه ذات يوم لحظة رحمانيّة، دفعته إلى فتح باب القفص لتحرير الطيور من الأسر، والسماح لها بالعودة إلى الفضاء، غير أن الطيور صدمتْه، عندما أحجمت عن مغادرة القفص، بل إنها، عوضًا عن الاقتراب من باب القفص، راحت تبتعد غاضبة إلى الجهة الأخرى، وتنكمش على بعضها في ملاذها "الآمن"، وكأنها تبعث رسالة رفض واضحة، قوامها أنها ملتزمة بنود "العقد الاجتماعي" المبرَم بينها وبين الحاكم (صاحب القفص)، الذي ينصّ بندُه الوحيد على التنازل عن كامل حريتها لقاء "الملاذ الآمن" الذي يعفيها من المجازفة، والمغامرة، والاعتماد على الذات.

تكرّر السؤال نفسه، لكن في ذهن بعض المحكومين من أمثالي، هذه المرّة، عندما اضطرّنا سوء طالعنا إلى متابعة مناظرة تلفزيونية، على إحدى المحطّات الفضائية الأردنية، تناولت مشروع قانون الجرائم الإلكترونية، بين مؤيّد ومعارض.

وللتذكير، أقحم هذا القانون على جدول أعمال الدورة الاستثنائية لمجلس الأمة من الحكومة التي كان واضحًا أنها تتعجّل إقراره، حتى من دون مشاورة قوى المجتمع المدني، على الرغم من أنه يمسّ الحريات العامّة على الفضاء الإلكتروني، وأثار جدلًا واسعا في أوساط الشعب الأردني، الذي أصبحت أغلبيته الساحقة تقطن غرف وسائل التواصل الاجتماعيّ، بفروعها المتعدّدة.

وفي المناظرة الصادمة إياها، تجاوزت حماسة الطرف المؤيّد إقرار هذا القانون كلّ الحدود، حتى خيّل إليّ لوهلة أنه عرّاب القانون أو من المشاركين المحوريين في اقتراحه وصياغته. ولا تثريب عليه ما دمنا نتحدّث عن مناظرة تحتمل الرأي والرأي الآخر، غير أن الطّامة التي تندرج في أدب الفانتازيا، واللامعقول، حدثت عندما اشتدّ الحوار بين الطرفين، وصولًا إلى العبارة التي أزعم أن معظم متابعي المناظرة فركوا تجاويف آذانهم ليتأكّدوا من أنهم سمعوها جيدًا، عندما قال صاحبنا إن "الحريّة هي منّةٌ من الملك على الشعب"، بل ذهب به اليقين حدّ تأكيد العبارة، ثانية، عندما استغرب المعارض ما قاله المؤيّد. والحال أنني حسدتُ المعارض على هدوء أعصابه، وهو يكتفي بالابتسام، فلو كنتُ مكانه، لأنهيت المناظرة كلها وانسحبت، في أقلّ تقدير.

باختصار، كانت العبارة مرعبة بكلّ المقاييس، لا لأنها تصدُر عن إعلاميّ محسوب على فئة المثقفين وحسب، بل لأنها تنسف كلّ ما كافح وناضلت في سبيله أجيالٌ من الناشطين الأردنيين، الذين دفعوا لقاءه تكاليف باهظة، بين سجون ومعتقلات ومطاردات، وحجز جوازات، وفصل من الوظائف، وتضييق في سبل العيش. من يقنع هؤلاء أن ما ناضلوا من أجله عقودًا لم يكن غير "منّة" من وليّ الأمر، وليس حقًّا منتزَعًا من لقمة عيشهم، ومن عمرهم الذي أمضوه في غرف التحقيق والتعذيب؟

لو كانت الحرية "منّة"، فذلك يعني، باختصار، أن الاستعباد قاعدة، والحريّة استثناء، وأن نضالات الشعوب الإنسانية من أجل الظفر بها خطأ تاريخي يناقض الطبيعة والغريزة، بل هو نوع من السطو على ممتلكاتٍ تخصّ الحاكم، وليست من حقّهم أبدًا، فهل كان صاحبنا يقصد ذلك حقًّا؟ لا أدري، لكن غاية ما أتمنّاه أن يكون الحاكم نفسه متابعًا هذه المناظرة ليعرف نمط تفكير بعض "الموالين" له من "النخبة"، ولا سيما من المحسوبين على فئات المثقّفين والإعلاميين، فهؤلاء أشدّ إضرارًا به من عتاة المعارضين، لأنهم يسعون لإسباغ القداسة المطلقة عليه، وإحاطته بهالةٍ إلهية، تجعله صاحب المنن والأفضال، والآمر الناهي، لا بالحرية وحسب، بل بكلّ شأن من شؤون العامّة، وفي ذلك منقصةٌ لا مزايدة.

على طرفٍ مقابل، أتمنّى أن لا يحضر الحاكم هذه المناظرة وأمثالها، لأنني أخشى أن يستقرّ في ذهنه أنّ محاولاته خائبة في منح شطرٍ من الحرية لهذا الشعب، عبر قوانين الأحزاب والانتخاب التي تحمّس لها وطالب بإقرارها سريعًا. وكلّ ما أخشاه عندها أن يفعل ما فعله بائع الطيور إياه عندما يئس من خروجها، فعاد وأغلق باب القفص.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.