الحافظون دين الله... والفاهمون

19 مارس 2024

(الشيخ إدريس الضو)

+ الخط -

لم يعد مقبولاً الاستسلام للجهل أو نقص المعلومات أو أحاديّتها، إذا ما أراد المرء أن يعرف عن أي مسألة أو موضوع أو شأنٍ ينال اهتمامه، ويشغل تفكيرَه وحديثه وتفاصيل يومياته، والدين ليس استثناءً من ذلك، بعدما تنوّعت مصادر المعلومات في السنوات الأخيرة، وباتت متاحةً لكل من أراد المعرفة.
نزعت هذه الحقيقة الأعذار من الذين يحفظون من الدين جانباً واحداً، هو الذي تلقّنوه صغاراً في مدارسهم وبيوتهم، وعبر شاشات التلفزيونات الرسمية، وفي خطب المساجد، ولم يبنوا علاقتهم بالدين على الفهم والتقليب في مختلف وجهات النظر، من داخل دينهم ومن خارجه؛ أي من الأديان الأخرى والأفكار الفلسفية التي تتعلّق بالإيمان الديني، والأفكار التي تعارض الدين أيضاً، فالتقليب بينها هو الذي يمنح المرء معرفة تبرّر تديّنه أو عدم تديّنه.
عليك، بكلمات أخرى، أن تعرف وتفهم، لا أن تحفظ، حتى أصدّق أنك مؤمن حقاً وصدقاً، ولست فرداً من جموعٍ يردّد ما حفظه في الصغر وتمسك به في الكبر على أساس العادة، أو بدافع الخوف من التغيير. والمسألة لم تعد صعبة، إذ لم يعد أحدٌ يمسك بمصادر المعلومات ثم لا يتيح منها إلّا ما يروق له، كما جرت العادة سنواتٍ وعقوداً وقروناً، قبل اختراع الإنترنت.
وهذا يعني أن ثمّة نوعين من العلاقة مع الدين، ليسا الإيمان والإلحاد، أو التديّن واللادينية. لا، بل هما الفهم والحفظ: ثمّة أغلبية حافظة لمسلّماتٍ دينية، تردّدها كما لو أنها حقائق مطلقة، وأقلية اطّلعت وعرفت وفهمت، فاختارت التديّن أو الخروج من الأديان. في الحالة الأخيرة، يتوفّر التمسك بالدين على مناعة معرفية لا تملكها تلك الأغلبية الحافظة.

كثيرون متعلمون متديّنون يجهلون من المعرفة الدينية طيفاً واسعاً من الآراء والأفكار والطروحات، ويكتفون بما حفظوه في صغرهم

رغم ذلك، تبدو الأغلبية الحافظة أكثر اطمئناناً لإيمانها من الأقلية الفاهمة، فاليقين حرفة الجهلاء، لأنّ الجهل يمنح صاحبه ظنّاً بأنّ ما يحفظه من مسلّمات هو الحقيقة التي ليس ثمّة ما ينقضها. الجهل هنا لا علاقة له بدرجة التعلّم أو موضوعه، فثمّة كثيرون متعلمون متدينون يجهلون من المعرفة الدينية طيفاً واسعاً من الآراء والأفكار والطروحات، ويكتفون بما حفظوه في صغرهم ولم يفكّروا فيه طوال سنوات أعمارهم. ألا ترى أنك يمكن أن تجلس إلى أستاذ جامعي فيأخذكما الحديث إلى نشأة الحياة وظهور الإنسان، فيقول لك: "يا أخي، نظرية التطور هذه لا تزال نظرية"! يقصد أنّها مجرّد كلام وافتراضات. طيّب يا أخي الذي قطعت أشواطاً طويلة في التعليم، ألم يخطر ببالك أن تقرأ قليلاً عن نظرية التطوّر التي تنكرها بثقة ويقين الجهلاء، لتكتشف أنّ وصف "نظرية علمية" لا يعني أنّها مجرّد افتراضات، بل اكتشافات ودلائل؟ ثم أن تقرأ من داخل دينك الذي تحفظ عنه ولا تفهمه، لتجد أنّ ثمة من فسّروا نظرية التطوّر دينياً وقالوا إنّها لا تتعارض معه، وافقتهم على قولهم أو لم توافق؟
لكنّ الحفظ، في شأن الدين، يسيطر على الفهم ويتفوّق عليه. وهذا ما يفسّر أن يطلق المسلمون على شيخ الدين الذي يحفظ معلوماتٍ كثيرةً ويردّدها ولا يأتي بجديد حولها، لقب "العلّامة". وهو لقبٌ كان يجدر أن يطلق على من يعرف كلّ شيء يحيط بالدين والأديان الأخرى، بما في ذلك الأفكار التي تنكر الدين وتعترض عليه، ويفهمها ويفهم خلفياتها وجذورها، ويُتقن الردّ عليها من عنديّاته، فقد سمعت "علّامة" مفترضاً يتحدّث في أحد الأيام عن براهين الدين مستعملاً مقولاتٍ عن "الإعجاز العلمي" من غير تبحّرٍ فيها لأنّها "ليست من اختصاصه"، بل ينقلها عن آخرين، معتقداً أنّه إن كان ثمّة من يقولها فإنّها كافية لتكون حجّة يعتدّ بها. أما هو، فصنعتُه أن يردّد مقولات التراث التي يحفظها بكفاءة نادرة.

اطّلاع المرء على معارف واسعة، وعلى الفكرة ونقيضها، يمكّنه من هضم أفكارٍ مختلفة، والتسامح بينها

وإذا كان ذلك حال "العلّامة" فما بالك بالمتطفّلين على الثقافة، الذين يردّدون ما يقوله علّاماتهم باعتباره حقائق قطعية ومعارف عميقة، من دون تمحيص أو نقد منطقي؟ طيّب، هل يستوي أن يكون المرء مثقفاً أو متعلّماً لكنّه لا يعرف عن موضوع يشغله ويملأ مجالسه وأحاديثه؟ المعلومات متاحة في كلّ مكان. عليك فقط ألّا تكتفي بجانب معرفي واحد أو وجهة نظر واحدة في شأن موضوعك واهتمامك.
ولأنّ من طبيعة الأشياء أن تغلب الكثرةُ الشجاعة، وأن يكون الإنسان عدوّاً لما يجهل، تجد أنّ الأغلبية الحافظة تحارب الأقلية الفاهمة وتزدريها، معتبرةً أنّ تجاوزها خطّ ترديد المسلّمات الجاهزة إلى التفكير فيها يعدّ مثلبةً ومنقصة. ما لا تعرفه تلك الأغلبية الحافظة التي تخاف مغادرة منطقة اطمئنانها، أنّ اطّلاع المرء على معارف واسعة، وعلى الفكرة ونقيضها، يمكّنه من هضم أفكارٍ مختلفة، والتسامح بينها، فلا يعود ثمّة مجالٌ في عقله للتصديق بوجهة نظر واحدة تدعمها مسلّماتٌ ليست من جوهر الدين بالضرورة، فهو إذاً يفكّر لأنه يفهم ويعرف، لا لأنّه يستهدف الدين ومسلّماته. أما الذين يحفظون ولا يفكرون، فعلّتهم أنهم لا يعرفون في زمنٍ أتيحت فيه أبواب المعرفة.
كم سيكون جميلاً أن نجعل شهر رمضان مناسبة للمعرفة والتفكير والنقاش بين الأفكار المتباينة، من أجل مزيد من الفهم حول الدين. كلّ عام وأنتم بخير.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.