الأزمة الأوكرانية .. قيامة جيوسياسية
قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت المراكز الثقافية للقوة العظمى قائدة المعسكر الشيوعي بمثابة فضاءات للتعريف بإنجازاتها في عدد من المجالات، ونشر أيديولوجيتها عبر كتب ومجلات ومطبوعات. وكانت أيضاً مصدر تغذية فكرية ومعرفية، بفضل الكتب والروايات التي كانت توضع رهن إشارة المنخرطات والمنخرطين. وكان خطاب السلام والتقدّم والتعايش بين الشعوب لازمة في مختلف المنشورات والإذاعات الموجهة إلى الخارج.
كان لافتاً أنّ المركز الثقافي السوفييتي في الرباط اختفى بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي سنة 1991 بشكل مفاجئ وسريع، ولم يعد المارّة والفضوليون يقفون أمام تلك الواجهة الزجاجية العريضة للمركز في شارع علال بن عبدالله، والتي كانت تغري بالتعرّف على محتوياتها القادمة من بلاد لينين وستالين ومكسيم غوركي ودوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وغوغول ويوري غاغارين... إلخ. ومن مكر التاريخ ودورته التراجيدية أن المركز تحوّل إلى أول فرع لسلسلة مطاعم ماكدونالدز الأميركية الشهيرة، وقد فتح أبوابه للزبائن، مباشرة بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي . واسترعى هذا المشهد المشحون دلاليا انتباه الإعلاميين والمثقفين والسياسيين، وفسّر أنه ليس وليد المصادفة، بل كان مشروعا فكّر فيه الأميركيون جيدا، وخطّطوا له وأرادوا منه توجيه رسالة صريحة وواضحة، أن الاتحاد السوفييتي الذي قضّ مضاجع واشنطن، وشكّل بالنسبة لها إزعاجا وتشويشا، انتهى بهزيمة مدوية على كل المستويات، فانهار النظام الشيوعي المتهالك أمام النظام الرأسمالي مفتول العضلات، وأن العالم ستقوده قوة واحدة لا شريك لها، الولايات المتحدة.
قد يكون للمنطق الاقتصادي والمالي والتجاري مبرّراته وذرائعه، لكن الأمر عندما يتعلق بصراع الكبار، وعندما نستحضر عقودا من الحرب الباردة أيديولوجياً وعسكرياً وجيوستراتيجياً، يجعلنا نستنتج، ببساطة، أن الإدارات الأميركية بذلت قصارى جهودها، ووظفت أحسن ما لديها من الخبرات والتجارب الاستخباراتية، وجنّدت خيرة منظريها وخبرائها لتدمير الاتحاد السوفييتي وتقزيمه وإهانته وتركيعه، ضمن استراتيجية الخنق والتطويق القائمة على مبدأ الانتقام. وحكاية المركز الثقافي السوفييتي في الرباط الذي صار فرعا لـ"ماكدونالدز" نموذج مصغر لهذه الاستراتيجية.
العقول المغامرة موجودة في العالم، وقد تقدم على مغامرة غير محسوبة
جعلت الأزمة الأوكرانية، في مختلف أبعادها المركبة والمتشعبة، العالم يعيش قيامة جيوسياسية مقلقة، ويشهد هندسة جديدة، وإعادة توزيع للأدوار وترتيب جديد للمصالح بمنطق براغماتي انتهازي، لا يخلو من شماتة ونزعة انتقامية، فالمآلات غير معروفة بشكل واضح ودقيق، والآفاق يلفها غموضٌ وقتامة، ما يحتّم قدراً كبيراً من الحذر للسير بسلام بين منعرجات التاريخ. وليس هناك أدنى شك في أن الحرب، خصوصا إذا كانت أسبابها ودوافعها لا تدخل في نطاق حقّ الدفاع عن النفس وعن الوحدة الترابية للدول وحماية سيادتها. لا يمكن إلا أن تقابَل بأشدّ عبارات الإدانة والتنديد. ولا يمكن تسويغها وتعليلها تحت أي مبرّر، فالحرب، أينما كانت ومتى اندلعت، تشكل تراجيديا دموية تلون التاريخ بالأحمر القاني، وتؤثث الذاكرات والمخيلات بالمشاهد المرعبة والتجارب المأساوية. والوازع الأخلاقي في التعاطي مع الحروب كل لا يتجزأ، فلا يمكن أن ينتفض الضمير الغربي بكل مكوناته، ويعلن حالة الاستنفار والتعبئة العامة وتجييش المشاعر، وتنسيق المواقف، وتوفير المال والسلاح و"المجاهدين"، وتوظيف الأمم المتحدة ومجلس الأمن وحلف الناتو، لتمكين الشعب الأوكراني، وفي طليعته وحدات الجيش والحكومة، من التصدّي للغزو الروسي. لكنه يتقاعس ويصاب بالجمود، ويركن إلى اللامبالاة والتجاهل، عندما يتعلق الأمر بشعوب أخرى، صارت حياتها وتاريخها جزءا من مأساة مركبة، فالشعب الفلسطيني، مثلا، تعرّض لحروب إبادة وتقتيل واقتلاع، وانتهكت كرامته، وأهينت مقدّساته. لنستحضر مشاهد قتل مئات الأطفال في غزة. وكيف كانت تقصف المنازل وتهدم فوق ساكنيها. وكيف كانت تنسف الأبراج الشاهقة أمام مرأى العالم وعلى الهواء مباشرة. إضافة إلى المآسي التي طاولت الشعوب، السوري والعراقي والليبي.
في عزّ احتدام الأزمة الأوكرانية، كشفت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة عن عنصريتها المقيتة، وانتصارها للمركزية الأوروبية والأميركية، واعتبارها شعوباً أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا أدنى منزلة من الحيوانات التي تركت وحيدة في مدن أوكرانية، بعد أن نزح أصحابها، جرحت هذه الحيوانات المشاعر في فضائيات إخبارية غربية تحدّث مراسلوها بلغة تفيض وجعا وتألما وحسرة، وهم يسردون حكايات ومشاهد "مؤثرة" عن إحساس الكلاب والقطط بالقلق والخوف والهلع. .. أليست هذه الممارسات قمة التطرّف في الانحياز لكل ما هو محسوب على الغرب، ولو كان كلباً أو قطاً؟ يكفي أن يعلن مالكه ولاءه لهذا الغرب، ورغبته في الانتماء إلى قيمه وثقافته وعقيدته، ليحظى بمعاملة استثنائية.
التاريخ لا يُصنع بالانفعالات والسياسات العمياء والقرارات الانتقامية الرعناء
يبدو أنّ أوكرانيا أصبحت في سياق الأزمة الحالية ضرورة جيوستراتيجية للغرب بقيادة الولايات المتحدة، فالحرب حالياً تدور بين البيت الأبيض والكرملين، لأن الذي يخطّط ويوجّه ويرسم سيناريوهات الرد، ويُملي القرارات العقابية التي على دول الاتحاد الأوروبي اتخاذها لشلّ الاقتصاد الروسي. ويسعى، بكل إصرار، إلى شنق نظام الكرملين وخنقه على كل المستويات وفي شتى المجالات. ويحرّض الرأي العام العالمي، ويشيطن موسكو ويحمّلها المسؤولية عن فظاعات الحرب الحالية، ويوفر السلاح والمال والدعم الدبلوماسي والإعلامي والنفسي لأوكرانيا. هو الولايات المتحدة، ومن دون أدنى تردّد، يمكن القول إن الرئيس جو بايدن أصبح زعيما للمعسكر الغربي منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. وتبعا لذلك، فهو كلي الحضور، وضرورة في كل الاجتماعات، سواء تعلق الأمر بحلف شمال الأطلسي أو التنسيق مع قادة الاتحاد الأوروبي لتشديد العقوبات ضد روسيا. وفي المقابل، دعم الرئيس زيلينسكي من دون الرضوخ لكل مطالبه، خصوصا ما يتعلق منها بفرض منطقة حظر جوي في سماء أوكرانيا.
وحسب حلف شمال الأطلسي، أغلقت روسيا الباب أمام الحل السياسي. وتبعا لذلك، بات يواجه خطرا جديدا يهدّد أمنه. وقال أمينه العام، ينس ستولتنبرغ، بالحرف: "سنحمي شعوبنا وديمقراطيتنا. الحرية دائماً تنتصر على الطغيان والاستبداد. نقف في جبهة واحدة مع أوكرانيا، وستكون التكاليف باهظة بالنسبة لروسيا. الحلفاء لن يقبلوا بانتهاكات متوحشة. الناتو هو أقوى حلف في التاريخ. سنحمي أي شبرٍ من أرض أي حليف. هذا الغزو ليس مفاجأة. لأن مخابرات "الناتو" توقعته منذ مدة"، فروسيا، حسب الحلف، قرّرت غزو أوكرانيا، ضاربة عرض الحائط بالجهود الدبلوماسية. وهذا ما جعل الحلف يرفع عدد قواته ويعزّز ترسانته في الجانب الشرقي لأوروبا، في إطار استراتيجية الدفاع وليس الهجوم. وهناك خطط طوّرها منذ سنوات للردّ على الأزمات. ويبدو الحلف مرتاح البال، بتأكيده أن لديه قوات كافية ومستعدّة لمواجهة كل الاحتمالات، وقد جرى تفعيلها للحيلولة دون انتقال النزاع إلى أوروبا.
يبدو أنّ أوكرانيا أصبحت في سياق الأزمة ضرورة جيوستراتيجية للغرب بقيادة الولايات المتحدة، فالحرب حالياً تدور بين البيت الأبيض والكرملين
وعلى الرغم من أنّ حلف الناتو مد الجيش الأوكراني بكمية كبيرة من الأسلحة المضادة للطائرات والدبابات، وأقر بأنه ساعد أوكرانيا في تدريب قواتها، بقي على حافّة الحرب يغذيها ويؤججها من دون مشاركته فيها مباشرة، لأنّ الدخول في مواجهة عسكرية مع الجيش الروسي سيكون مقدّمة لاندلاع حرب عالمية ثالثة، قد تكون مدمرة بشكل مرعب، خصوصاً أنّ القيادة الروسية تلوّح باستعمال السلاح النووي، وقد لا يكون ذلك في سياق تطور الأحداث جزءاً من استراتيجية حرب نفسية إعلامية، لأنّ العقول المغامرة موجودة في العالم، وقد تقدم على مغامرة غير محسوبة.
واقعيا على الأرض، تشكل معسكر الحلفاء، وهو يضخ المال والسلاح والعتاد ويؤمن الدعم اللوجيستي، ويحرّض على التصعيد. الشعوب تناهض الحروب وتمقتها مهما كانت أسبابها، لكن الأنظمة مدفوعة بحزمة مصالح ومنافع وحسابات، تتفنن في تسويغ مبرّراتها للتغطية على هذه الحروب وضمان استمراريتها. والرئيس الأوكراني، زيلينسكي، جعل من الخطاب الوجداني رهانا وورقة أخلاقية، فهو يسوق أطروحة مركزية، مفادها إذا سقطت أوكرانيا سقطت أوروبا بكاملها. وبدل البحث عن مخرج سلمي وحل بناء ينتصر للحكمة والحوار، اختار زيلينسكي التحريض والتصعيد، مؤكدا أن الدفاع عن سيادة بلاده حق مشروع. وهنا، مع إدانة بديهية للحرب وقتل المدنيين وتدمير المنشآت، يجب عدم السقوط في فخ الشعبوية للدفاع عن هذه الحقوق، وقد نجح الممثل الكوميدي الذي تحول إلى بطل تراجيدي ورئيس إشكالي في كسب تعاطف الغرب مع الشعب الأوكراني، بل أصبح ظاهرة إعلامية بامتياز، خصوصا عندما تحوّلت تدخلاته عبر الفيديو أمام مؤسسات تشريعية غربية إلى ما يشبه الواجب الأخلاقي والإنساني، وكيّف لغته وخطابه حسب السياق التاريخي والثقافي لكلّ دولة.
الخلاصة في خضم هذه الأزمة المعقدة، أن التاريخ لا يصنع بالانفعالات والسياسات العمياء والقرارات الانتقامية الرعناء. يحتاج حكماء، وليس إلى حلفاء لتدمير هذا العالم، عوض حمايته وتعزيز السلام والأمن بين شعوبه ودوله.