"يسقط يسقط حكم العسكر"؛ بهذا الهتاف المعادي للمنظومة الأمنية في مصر، الذي طالما صدحت به حناجر ثوار الخامس والعشرين من يناير، ضد الجيش والشرطة، علت أصوات العشرات من رجال الشرطة المصرية، مرددين ذات الهتاف، ضد أفراد الشرطة العسكرية (تابعين للجيش)، عقب محاولتهم التحفظ على أمين شرطة متهم بالاعتداء على ضابط طيار برتبة مقدم، بعد مطالبته برخصة قيادة سيارته في أحد الكمائن الشرطية. لتنتهي المعركة بين الطرفين إلى إغلاق قسمي شرطة بندر شبين الكوم ومركز شبين الكوم.
هذه الحادثة ليست فردية، إذ شهد العام الماضي بعد وصول ممثل القوات المسلحة عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في أعقاب عزل الرئيس السابق محمد مرسي، تعاظم صراع النفوذ التقليدي بين أبناء المؤسستين الأمنيتين؛ الجيش والشرطة.
وقائع الصراع في عهد السيسي ومبارك
وثق "العربي الجديد" كافة وقائع الاشتباكات بين رجال الشرطة، وقوات الجيش المصري طيلة العقود الماضية، وتظهر نتائج التوثيق، أن العام الماضي شهد أكبر عدد من وقائع اشتباكات رجال الشرطة والجيش، ففي شهر مارس/آذار من هذا العام، وقعت مشاجرة كبيرة بين قوات الشرطة في قسم إمبابة وقوات الجيش المتمركزة أمام القسم لحمايته، وقالت مصادر أمنية إن السبب كان اعتداء أمين شرطة على مجند بالجيش، وتطورت الأحداث لتطلق قوات الجيش قنابل الغاز على قوات الشرطة التي تحصن أفرادها داخل القسم، ويرد العشرات من رجال الشرطة بالهتاف ذاته الذي رددوه في واقعة أول أمس "يسقط يسقط حكم العسكر".
خلال هذا الشهر أيضاً، وقعت مشاجرة، فى كمين أمام بوابة تحصيل الرسوم بالكيلو 40 طريق «بورسعيد- الإسماعيلية»، بين ضابط جيش، وضابط الشرطة المسؤول عن الكمين، بعد تعدي ضابط الشرطة لفظياً على ضابط الجيش وزوجته، فأبلغ الشرطة العسكرية التي تحركت إلى الموقع، واقتادت أفراد قوة الكمين إلى أحد معسكرات الجيش لتكديره.
كذلك وقعت معركة مصغرة بين الطرفين، فى نوفمبر/تشرين الثاني 2012، بدأت بمشادة بين ضابط شرطة من قوة كمين بالقاهرة الجديدة وضابط جيش كان ماراً بسيارته، وقال اللواء أسامة الصغير، مدير أمن القاهرة، حينها، إن أفراد قسم ثان القاهرة الجديدة فوجئوا بتجمع ما يقرب من 200 ضابط بالشرطة العسكرية وحصارهم القسم، للمطالبة بـ«تسليم ضابط الشرطة إليهم للقصاص منه بسبب إهانة زميلهم».
في عصر الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، جرت واقعة واحدة موثقة لاشتباك بين قوات الجيش والشرطة، بدأت بهجوم عشرات من طلبة الكلية الحربية على قسم شرطة مدينة 15 مايو، الذي ألحقوا به دماراً واسعاً، وأحرقوا سيارات الشرطة المتواجدة أمامه، على خلفية شكوى طالب بالكلية الحربية لزملائه من سوء معاملة قوة شرطة استوقفته في شوارع المدينة.
التحليل الأمني والاقتصادي للصراع
ترسم تلك الوقائع المتعددة، ملامح الصراع التاريخي الممتد بين الأجهزة التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع المصريتين، لهذا الصراع أسباب متعددة منها المزايا المادية، النفوذ المؤسسي والمجتمعي، والصلاحيات المطلقة للطرفين، مقابل ما يمكن تسميته بالولاء للنظام الحاكم، وهو ما انعكس على طريقة تعامل كل منهما لبعضهما البعض، بحسب محمد ياسين، عقيد سابق في وزارة الداخلية، والذي وصف الصراع بـ"التاريخي الممتد"، موضحا أن مجالات هذا الصراع تظهر في مجالات عديدة منها النفوذ المجتمعي، والمزايا المادية، مؤكداً انعكاس كل هذه الأمور على نظرة أفراد القوات المسلحة إليهم، بأنهم من يمثلون المنهج المنضبط في العسكرية، وأن كافة أجهزة وزارة الداخلية غير منضبطة، وأن قوات الأمن المركزي هي "بعبع من ورق".
حاولت الداخلية السير على نفس منهج "القوات المسلحة" في تكوين إمبراطوريتها الاقتصادية، لكي تضمن لها نفوذا في دوائر الحكم، يقول ياسين "لم تقتصر السيطرة على موارد البلاد الاقتصادية على "وزارة الدفاع"، بل امتدت لتشمل وزارة الداخلية التي تدير عددا من الشركات التجارية تدر أرباحاً لأعضائها، وتأسيس عددا من الصناديق الخاصة بعيداً عن المراقبة كما الحال مع ممتلكات وزارة الدفاع.
ويؤكد ياسين في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن شعور أعضاء القوات المسلحة بانحسار نفوذهم داخل المجتمع، رغم تعرضهم لمخاطر كبرى في حماية البلاد من أخطار إقليمية، يخلق نوعا من أنواع الحساسية تجاه أفراد الشرطة الذين يتمتعون بنفوذ مجتمعي واسع، يمارسونه عليهم أحياناً وهو ما يؤدي إلى هذه المشاجرات المستمرة.
وشهدت المرحلة التي تلت تنصيب عبد الفتاح السيسي رئيساً للبلاد إصدار حزمة من القوانين، عززت بدورها دور القوات المسلحة في حفظ الأمن الداخلي، ومنح المحاكم العسكرية صلاحيات واسعة في القضايا التي تنظرها، فيما بدا للبعض أن تلك القوانين محاولة للتقليل من نفوذ القضاء المدني، ومحاولة لتحويل الشرطة لتبعية شبه كاملة للقوات المسلحة.
ففي 27 أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، أصدر السيسي قانوناً ينظّم دور الجيش في فرض الأمن في الداخل، ويمنح المحاكم العسكرية صلاحيات أكبر، ويُجيز التشريع للجيش مساعدة الشرطة في حراسة المنشآت العامة، بما في ذلك محطات الكهرباء، وأنابيب الغاز، ومحطات السكة الحديدية، والطرقات، والجسور. كما يُتيح اللجوء إلى المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين المتهمين بجنايات مثل قطع الطرقات أو الاعتداء على الأملاك العامة، مع العلم أنه غالباً ما تُوجَّه مثل هذه التُّهَم إلى المشاركين في الاحتجاجات في الشوارع.
في سياق تعزيز دور القوات المسلحة في الحياة السياسية، دفع السيسي بعدد من الشخصيات العسكرية في مناصب مدنية جديدة، وكان من أبرزها تعيين اللواء خالد عبد السلام الصدر أميناً عاماً لمجلس النواب المصري، وهو أول شخصية عسكرية تتولّى هذا المنصب؛ والذي سيصير مسؤولاً عن إدارة الشؤون اليومية لمجلس النواب، بعد إجراء انتخابات لاختيار أعضائه.
يبرر اللواء محمود خلف مستشار أكاديمية ناصر العسكرية، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد" منح "السيسي" هذه الصلاحيات الواسعة للقضاء العسكري والقوات المسلحة، في حفظ الأمن الداخلي، إلى الظرف الراهن الذي يتطلب من القوات المسلحة دعم جهاز الداخلية لمواجهته؛ رافضاً أن يكون هنا أي أن يكون هذا الأمر لعدم ثقته في أجهزة الداخلية، أو تقليل من شأنها.
كيف حجّم الجيش نفوذ الداخلية؟
بعد ثورة 25 يناير، استطاعت المؤسسة العسكرية استعادة جزء من نفوذها المفقود خلال عهد مبارك، يقول عمر عاشور أستاذ الدراسات الأمنية بجامعة إكستر البريطانية، وزميل زائر بمركز بروكنجز للأبحاث في تصريحات لـ"العربي الجديد": "إن المؤسسة العسكرية استفادت من الثورة في تحجيم نفوذ الداخلية، مقابل استعادة صلاحياتها الواسعة، وتشكيل سلطة قوية تعبر عنها من خلال مشاريع قوانين للسيطرة على المجال العام، والحد من نفوذ الداخلية، برفع شأن مديرية المخابرات العامة لتكون ذراعه وأداته الداخلية الرئيسة إلى جانب الاستخبارات العسكرية.
اللواء محمود خلف؛ وهو أحد المقربين من أجهزة الدولة، شكك في التقارير الإعلامية التي تتحدث عن وجود صراع بين أجهزة الدولة، واصفاً إياها "بالفارغة والهادفة لزعزعة استقرار البلاد" مطالباً من يتحدثون عنها، بالحرص على سلامة استقرار الوطن الذي يحتاج إلى تكاتف الجميع، وأكد "أن الشرطة والجيش أيد واحدة".
خلال فترة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، تضخم دور جهاز أمن الدولة، منذ أن كان يرأسه حبيب العادلي قبل أن يصبح وزير الداخلية، وتحول جهاز أمن الدولة للتبعية المباشرة لرئيس الجمهورية، لدرجة قيامه بعملية تنصت على مهاتفات قيادات الجيش، وهو الدور المسؤول عنه جهاز المخابرات العسكرية التي كان يتولاها "السيسي" قبل الثورة – وهو ما أوضحه عدد من وثائق جهاز أمن الدولة بمدينة نصر بعد اقتحامه في 2011-.
من وجهة نظر عمر عاشور، فإن أسباب توسع دور أجهزة وزارة الداخلية مقابل انحسار دور وزارة الدفاع في عهد مبارك، يرجع إلى عدم ترحيب المؤسسة العسكرية بملف التوريث الذي كان يحاول النظام تمريره بمساعدة الداخلية، والذي كانت المؤسسة العسكرية ترى أن من يحكم مصر لا بد أن يكون أحد أبنائها، لأنها تعتبر نفسها الأحق تاريخياً بهذا المنصب.
يرفض اللواء محمود خلف، التحدَث عن أسباب بروز دور وزارة الداخلية في هذه المرحلة، مقابل انحسار دور أجهزة القوات المسلحة، مكتفياً بقوله "بلاش نتكلم في الفترة دي، أه كان فيه إنحرافات لكن مافيش خيانات".
بحسب البحث الذي أعده يزيد صايغ، لمركز كارنيجي للشرق الأوسط؛ بعنوان "جمهورية الضباط في مصر"، فإن ظهور الدولة الأمنية في فترة حكم مبارك التي احتلت فيها الأجهزة الأمنية موقع الصدارة في فرض سلطة الرئيس في الحفاظ على النظام، دفع إلى الاتجاه نحو زيادة الاعتماد على الأجهزة الأمنية، فقد ازداد عددها ليصل إلى ما يقدر بـ 1.4 مليون، وفقاً لبعض التقديرات عند الإطاحة بمبارك، كما ارتفعت ميزانية وزارة الداخلية السنوية لـ 3 أضعاف، مقارنة بالزيادة التي شهدتها وزارة الدفاع.
وبحسب بحث يزيد، فإن "إزاحة القوات المسلحة إلى الهامش في عهد مبارك، أدت إلى التنافس الحاد على الموارد والنفوذ المؤسسي، وقد نظر ضباط القوات المسلحة إلى وزارة الداخلية، وأجهزة الشرطة والأمن المرتبطة بها نظرة ازدراء تعمقت خلال العقد الأخير من حكم مبارك، وعاد ذلك جزئياً إلى الاعتقاد بأنها مشتركة في دائرة الفساد التي أخذت بالتوسع منذ صعود جمال مبارك".
يوضح عاشور، أن جهاز مباحث أمن الدولة في عهد مبارك صار أقوى قطاع شرطي، إذ وظف ما يقدر بنحو مائة ألف فرد، وتجاوز تأثير ونفوذ أفراده كافة أفراد المؤسسات الأخرى، وكان بمثابة الركيزة الأساسية لنظام مبارك في تحقيق أهدافه؛ والتي كان يأتي على أولوياتها تمرير ملف التوريث.
أخيراً، يرى عاشور أن هذا الصراع سيستمر بين كلا المؤسستين خلال الأعوام المُقبلة، واصفاً هذه الاشتباكات بين ضباط الجيش والشرطة على خلفية تلك الوقائع بأنها أشبه بالكوميديا السوداء.