ملقى على الأرض، ومصاب بثلاث رصاصات في رقبته وكتفه وفمه. ركلات عناصر قوات النظام المتجمّعين حوله، كانت الوحيدة التي توقظه وتنذره بأنّه لا يزال على قيد الحياة، كلّما فقد وعيه.
يمثّل أنه قد مات، ولحسن حظه لم يخطر على بال عناصر قوات النظام سحب جثته والتمثيل بها، مع أنهم ألقوا القبض عليه بالجرم المشهود، أثناء مشاركته في مظاهرة تنادي بالحرية في إحدى بلدات ريف إدلب مع بداية الثورة السورية. بعد ثلاث سنين من الحادثة، ألا زلت تذكرها؟ يجيب الشاب العشريني، والناشط الإعلامي من إدلب، شريف الشيخ، "طبعاً كل ما شوف إيدي المشلولة بتذكرها، حتى بوقت النوم، الكوابيس ما بتتركني بحالي".
شريف واحد من أصل مليون ونصف المليون سوري أصيبوا بجروح وإعاقات، وثّق معاناتهم المرصد السوري لحقوق الإنسان، إلى جانب مائتي ألف سوري قتلوا منذ بداية الثورة وحتى نهاية العام الماضي، بينما يوجد جانب آخر من المعاناة، صعب التوثيق، يتمثل في المعاناة النفسية التي أصيب بها معظم السوريين بدرجات متفاوتة، ابتداء من القلق وزحمة الكوابيس ووصولاً إلى الجنون، مروراً بالاكتئاب.
القلق
يُعرّف القلق بأنّه أحد الاضطرابات النفسية التي تختلف عن "الخوف"، لكونها تنشأ على إثر تهديد غير مباشر، يخلق شعوراً بعدم الارتياح والتوتر الدائم. على سبيل المثال، يخاف السوريون الذين يعيشون في المناطق الساخنة، من صوت البراميل المتفجرة، إلّا أن تكرار مشاهد القصف والقتل في كوابيسهم وهم ينامون خارج نطاق الخطر، هو ما يطلق عليه اضطراب القلق.
محمد، شاب في العشرينيات من عمره، لجأ إلى مدينة إسطنبول التركية، بعدما قضى أصدقاؤه في مجزرة لطيران النظام شمال سورية. يقطن أحمد حالياً بالقرب من مطار "أتاتورك الدولي"، ولا يمكنه أن يسمع صوت طائرة تقلع أو تهبط هناك، من دون أن يركض ويختبئ محتمياً بحائط أو طاولة. وهو ما يطلق عليه، بحسب ما أفاد الطبيب النفسي السوري، محمد دندل، لـ"العربي الجديد" بـ"اضطراب الشدّة ما بعد الصدمة" PTSD، أحد أعراض القلق، الذي يدفع الشخص إلى تذكّر الحادثة، عندما يصادف أياً من بوادرها، كأن يشمّ رائحة شمّها حينها مثلاً.
"كلّما أسمع صوت مفاتيح، أشعر بالخوف، وأتجمّد في مكاني، أتذكر بشاعة السجّان الذي كان يوصد باب الزنزانة التي قبعت فيها طوال شهرين بفرع الأمن العسكري في دمشق". تقول منى، صحافية سورية، مقيمة في مدينة غازي عنتاب التركية، لـ"العربي الجديد"، وتضيف ضاحكة: "منذ أسبوع، صادفت عنصراً من الأمن التركي (الجندرما) يرتدي زياً عسكرياً، تجمّدت في مكاني وكأن أحداً سكب عليّ سطل مياه باردة".
في سيناريو مشابه، تتسارع دقّات قلب لبنى، المقيمة في مصر، ولا تهدأ إلّا بعد عدّة ساعات كلّما دقّ أحدهم باب منزلها، وذلك لما يجلبه الصوت من تداعيات في ذاكرتها الممتلئة بحوادث الدهم التي كانت تشنّها عناصر قوات النظام على حيّها الكائن في مدينة حلب.
معظم من التقاهم "العربي الجديد" من السوريين البالغين، للبحث عن التأثيرات السلبية للحرب على نفسيّتهم، قالوا إنّ "الكوابيس لا تفارقهم ليلة واحدة، فمنهم من يرى الطيران يقصف منطقته، ومنهم من يرى قوات النظام تلاحقه لتعتقله، في حين أكّدت فئة ثالثة أن (داعش) يحتلّ مناماتها، وهو يطاردها ويقطّع الرؤوس. آخرون استغربوا من كونهم يستيقظون من نومهم باكين، من دون أن يتذكروا شيئا من الممكن أنهم قد رأوه في مناماتهم المقطّعة والموصّلة".
الكوابيس تعتبر إلى جانب اضطراب "الشدة ما بعد الصدمة" من أهم أعراض القلق، بالإضافة إلى عرض من نوع آخر يدعى "اضطراب التكيّف"، رافق معظم السوريين الذين انتقلوا فجأة من بيئة إلى بيئة أخرى مختلفة تماماً، وهو يعني، بحسب التعريفات المتداولة عنه: صعوبة مواجهة الشخص للحياة بشكلها الجديد، بعد تعرّضه لصدمة فقدان أحد الأقرباء منه، أو فقدان منزله.
غالباً ما يظهر اضطراب التكيّف من خلال عدم القدرة على مزاولة العمل، والانعزال عن المحيط، والشعور بالحزن. وبحسب دراسات، فإنّ استمرار عدم التكيّف عند الشخص لما يزيد عن ستة أشهر، أمر يستدعي زيارة طبيب نفسي للمعالجة.
السوريون فقدوا منازلهم وأهلهم وأقرباءهم ووطنهم، ووجدوا أنفسهم فجأة لاجئين في بلاد لا تشبههم. أحمد، شاب من مدينة الزبداني في ريف دمشق، سافر إلى لبنان مشياً عبر الجبال، بطريقة غير شرعية متحدياً الموت، لينطلق ثانية من هناك إلى تركيا، ومنها عبر زورق في البحر إلى ألمانيا، ليجد نفسه هناك غير قادر على التأقلم أو الانسجام، وعاد إلى مدينته.
أصدقاء أحمد بالكاد توقفوا عن الضحك حينما قال لهم "أنا مع العرب ما كنت عم بقدر أتفاهم لحتى أتفاهم مع الأجانب، الموت أحسنلي".
الاكتئاب
عادة ما تصاب فئة من المجتمع، تتراوح نسبتها بين 20 و30 في المائة في سائر بلدان العالم، باضطراب الاكتئاب، الذي يتجسد في خليط من المشاعر الحزينة، وفقدان الأمل والمتعة في الحياة. ويحلّ ذلك المرض بمن فقد عزيزاً، أو مرّ بظروف معيشية صعبة، أو ينتج عن اختلال هرموني، كاكتئاب ما بعد الولادة مثلاً، في وقت تُضاعف فيه الكوارث والحروب من ضحايا الاكتئاب، كما أنّها تزيد من دواعيه، لتجعله يتطوّر إلى "حادّ"، ويدفع صاحبة إلى الانتحار أحياناً.
"كنت لا أستطيع النوم من شدة الجوع، أحمل صحناً فارغاً، وأدور به على بيوت الجيران في حي الخالدية المحاصر بمدينة حمص، أذكر يومها أنّي حصّلت خمس زيتونات بعد جهد جهيد. بصراحة لم يدفعني إلى مغادرة حمص سوى الجوع، بالرغم من كل المجازر التي رأيتها بأم عيني". يقول رامي، شاب في الثامنة والعشرين من عمره، لـ"العربي الجديد"، موضحاً أنّ ما عاناه في حمص سابقاً، قلبه اليوم رأساً على عقب، فلم يعد رامي الاجتماعي، ولا رامي الهادئ، بل تحوّل إلى شخص عصبي ومنعزل يعيش في إسطنبول، لا يقدر على النوم، ولا يأكل بشهية.
رامي يعرف تماماً أنّه يعاني من الاكتئاب، يحاول في إحدى المرّات الخروج من المنزل والاستجابة لدعوة أصدقائه على العشاء، يتجنّب خلال لقائه معهم التحدّث عن أي شيء له علاقة بحمص، ويمضي وقتاً مسلياً، ولكن ما إن يعود إلى المنزل، حتى يعتصر قلبه حزناً، ويشعر بالذنب، فكيف له أن يأكل ويضحك، وأقاربه لا زالوا في الداخل تحت وطأة الحصار والقصف. يقضي رامي بقية ليلته باكياً، ويحاول مجدداً الحصول على قسط من النوم.
على عكس رامي، تنام ليلى، لاجئة من ريف دمشق في بلدة برلياس بلبنان، 15 ساعة في اليوم، فالنوم هو الوسيلة الوحيدة، على حد وصفها، "للهروب من الواقع، وإن عانت من الكوابيس، فالأخيرة تظلّ أفضل من التفكير في عائلتها المحاصرة وراء الحدود، وأمّها الستينية المعتقلة في سجون النظام".
يشرح الطبيب النفسي، محمد دندل، أبرز أعراض مرض الاكتئاب المنتشر بين السوريين اليوم قائلا "اضطراب النوم، اضطراب الشهية، الشعور بالذنب، فقدان التركيز، وفقدان الطاقة للقيام بأي نشاط، حتى وإن كان للتواصل مع الناس، هي من أبرز أعراض الاكتئاب وأكثرها انتشاراً عند السوريين حالياً"، مشيراً إلى أنّ "استمرار ظهور خمسة من أعراض الاكتئاب، إلى جانب فقدان المتعة لمدة أسبوعين، مرض يستدعي العلاج".
أعراض الاكتئاب
انتشرت إلى حد كبير، خلال الحرب في سورية، نسبة المشاكل التي وقعت بين الأفراد أو الأزواج أو العائلات، فسّرها البعض بأنها جاءت نتيجة اضطرار عدة عائلات في بعض الأحيان إلى النزوح والسكن في بيت واحد، بالإضافة إلى "زيادة الحساسية عند الأفراد، أي العصبية، والانزعاج لأمور لا تحظى بأهمية"، وهذا ما أضافه الطبيب محمد إلى أعراض الاكتئاب السابقة.
يؤدي الاكتئاب بصاحبه إلى الانتحار، الأمر الذي حصل مع عدّة سوريين في الفترة الأخيرة، وهو أكثر ما لفت الأنظار إلى أهمية العلاج النفسي، وتدارك الحالة قبل تطورها. ووفقاً لإخصائية في علم النفس، رفضت الكشف عن اسمها "فإنّ كثيراً من أهالي المرضى، لا يكونون واعين بخطورة حالة أبنائهم، ولا يفكرون أصلاً في أن الأمراض النفسية تحتاج إلى علاج، إلى أن يتفاجأوا بانتحارهم. ومن هنا يتوجب العمل طيلة الوقت، لتوعية المجتمع السوري بضرورة العلاج النفسي، والسعي إلى تأمين كوادر معالجة نفسية لضحايا الحرب".
الجنون
"أخافتنا تصرّفاته، بعدما ظننا أنّه يمزح في البداية، فمرة يقول لنا إنّه النبيّ محمد، ومرة أخرى الأعور الدجّال، إلى أن صار يصرخ بشكل جنوني، ويقول (أخرجوه من هنا.. إنه الشيطان) مشيراً بإصبعه إلى صديق آخر لنا"، بهذه الكلمات يحكي عبدالرحمن- شاب يقطن مع مجموعة من أصدقائه السوريين منزلاً في حي الفاتح بإسطنبول- قصة الشاب عدنان الذي انضم مجدداً إليهم بعد هربه من سورية.
ويكمل عبدالرحمن قائلا لـ"العربي الجديد": "عدنان ظلّ على هذه الحالة أكثر من أسبوع، كان يوقظنا صراخه كل ليلة. قررنا في النهاية الاتصال بأحد أقربائه، الذي قدم إلينا وأخذه".
بعد التقصّي عن حالة الشاب عدنان، تبيّن لنا أنه من بلدة رنكوس الصغيرة في جبال القلمون بريف دمشق، قضت والدته بقذيفة أمام عينيه، وعانى الأمرّين حتى وصل إلى تركيا، وعلى ما يبدو فإنّ ما مرّ به أدخله في حالة "ذهان" بحسب معالجه النفسي، الذي أوضح أنّ "الذهان، أو ما يدعى بالخلل العقلي، يصيب 1 في المائة من الأشخاص، الذين تعرضّوا لحالة من الاكتئاب الشديد، أو الحوادث المروّعة، أو أنّهم يعانون من الفصام والتوتر الاجتماعي".
يعد عدنان الحالة الوحيدة التي وثقتها كاتبة التحقيق للمصابين بـ"الذهان"، لكن الظروف الصعبة التي عايشها تنطبق على آلاف السوريين، ما يرجّح تواجد مصابين آخرين بالمرض ذاته داخل وخارج سورية.
دراسات وإحصاءات
يؤكد الطبيب محمد دندل عدم وجود أي دراسة مسحية حتى الآن عن الآثار النفسية السلبية التي خلّفتها الحرب على السوريين، أو إحصائية لضحاياها، وإن تواجدت فهي لا تطابق الشروط، وذلك في ظل الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد. متوقعاً، وبحسب رؤيته، أن 50 في المائة من السوريين، على أقل تقدير، يعانون حالياً من اضطرابات نفسية خلّفتها الحرب حتى اللحظة.
نعمة النسيان
تحاول فئة من السوريين، ممن يعيشون حالياً خارج نطاق الحرب، تناسي كل ما مرّ عليهم من مصاعب، متخذين من ذلك آلية دفاعية ضد إصابتهم باضطرابات نفسية. في حين يجد البعض أن هذه الآلية من أبرز أعراض هذه الاضطربات.
تؤكد لمى، ناشطة إعلامية، لاجئة في لبنان، لـ"العربي الجديد": "أنّها تتجنّب تذكّر أي شيء عانته عندما كانت في ريف دمشق، من قصف أو جوع أو حصار، لدرجة باتت فيها لا تتذكر فعلاً أسماء أشخاص عاشت معهم هناك طوال سنوات"، مشيرة إلى أنّ التذكر وحده يعني لها الجنون.
كثيرون وافقوا لمى، وأكّدوا أنهم يتبعون سياسة التناسي، حتى يبدأوا حياة جديدة، في وقت لم يتمكّن فيه آخرون من ذلك، خاصة أولئك الذين أصيبوا بعاهات دائمة نتيجة جروح أصيبوا بها.
الفرضية العلمية تحتّم زوال النتيجة مع زوال المسبب لها، ففي حال افترضنا أن الحرب السورية قد وضعت أوزارها، فهذا يعني أن الاضطرابات النفسية عند السوريين يجب أن تختفي، الأمر الذي لم توافق عليه أخصائية علم النفس، في حديثها لـ"العربي الجديد"، موضّحة أنّ "الإنسان كتلة من المشاعر والأحاسيس، التي تراكمها البيئة التي عاش فيها، والظروف التي مرّ بها. من المؤكد أن انتهاء الحرب يخفف من أعراض الاضطرابات النفسية، إلّا أنه لا يخفيها تماماً، ومن الممكن أن تستمر سنوات، تاركة أثرها الخاص في بناء الشخصية".