مكتبات فلسطين: تاريخ إسرائيلي من النهب والتدمير

مكتبات فلسطين: تاريخ إسرائيلي من النهب والتدمير

07 يناير 2024
في رفح (محمد عبد/ فرانس برس)
+ الخط -

تعمّد الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه المتواصل على غزة خلق حالة من الفوضى، واستخدم كل أساليبه لتجريد القطاع من كل ما يشير إلى المدنية، فلم يوجه بنادقه نحو البشر فحسب ولم يشبع من دماء عشرات آلاف الضحايا، بل دمّر مكتبات ومستشفيات ومدارس، في محاولة لجعل القطاع أرضاً قفرة لا عمار فيه ولا بشر. كما استقصد اغتيال كل ما يشير إلى إرث تاريخي أو حضاري للمدينة التي وصفها المؤرخ المقدسي عارف العارف عام 1943، في كتابه "تاريخ غزة"، بـ"بنت الأجيال"، في إشارة إلى عراقة تاريخها، الضاربة جذوره إلى قرونٍ بعيدة قبل الميلاد، إذ قال: "هي بنت الأجيال المنصرمة، ورفيقة العصور الفائتة، من اليوم الذي سطّر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا".

قصفت آلة الحرب الإسرائيلية مبنى الأرشيف المركزي وسط مدينة غزة، وأحرقت آلاف الوثائق التي تؤرخ للقطاع وتوثّق مباني المدينة الأثرية ومراحل تطورها العمراني، بالإضافة إلى مخطوطات لشخصيات وطنية، ويرجع عمر بعضها إلى ما يزيد عن القرن ونصف القرن. ودمرت قوات الاحتلال مركز رشاد الشوا الثقافي؛ حيث ألقى رئيس جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا محاضرات، واستضاف قبل نحو 25 عاماً محادثات السلام بين ياسر عرفات وبيل كلينتون. ودمرت المكتبة الرئيسية التي كانت مقصداً لكل طالب علم من أبناء القطاع المحاصر، بالإضافة إلى متحف خانيونس، وذلك على الرغم من مناشدة منظمة يونيسكو بعدم استهداف الممتلكات الثقافية أو استخدامها لأغراض عسكرية. واستهدفت مكتبة سمير منصور الشهيرة التي تعدّ واحدة من أكبر دور النشر والتوزيع في القطاع. كما استهدف القصف الإسرائيلي مكتبات "اقرأ" و"الرؤية" و"النهضة"، وعدداً من المراكز الثقافية والمساحات الفنية، والمراكز المختصة في مجالات العلوم والأبحاث والتدريب.

تزامن تدمير المواقع الثقافية في غزة مع سرقة الممتلكات من بيوت الغزيين وتخريب المواقع الأثرية، وهذه الممارسات ليست وليدة لحظتها، بل تستند على تراث من الانتهاكات التي تعود ملامحها الأولى إلى ما يقارب 75 عاماً. إذ تسعى إسرائيل لاقتلاع الفلسطينيين من جذورهم، ويشير المفكر الفرنسي المناهض للصهيونية، جيل دولوز، أن الهدف الأساسي لهذا الكيان هو "تفريغ الأرض الفلسطينية، ومحاولة إظهارها أرضاً فارغة مخصصة للصهاينة".

وقد ذهب تيار من المؤرخين الإسرائيليين الجدد إلى الاعتراف ببعض ما اقترفه المحتلون من أجدادهم بحق الفلسطينيين، فكشف المؤرخ غيش عميت، في كتابه "بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية" الصادر عام 2016، عن عمليات سرقة الكتب التي قامت بها عصابات الهاغاناه من بيوت المقدسيين بعد أشهر من الاحتلال، إذ استولت برفقة أكاديميين من الجامعة العبرية على أكثر من 30 ألف كتاب من بيوت ومكتبات الفلسطينيين الذين هُجروا بالقوة من منازلهم، ودفن جزء كبير منها في أقبية "المكتبة الوطنية الإسرائيلية" تحت اسم "أملاك مهجورة"، كمحاولة لتورية حقيقة أنها ليست إلا أملاكاً مسروقة، مبررة عملية النهب الممنهجة بأنها تنقذ الكنوز الثقافية من التلف.

وبعد النكبة بعشرة أعوام، أتلفت إسرائيل نحو 27 ألف كتاب من ممتلكات الفلسطينيين، بدعوى أنها من دون قيمة أو لكونها ذات خطاب خطير على الدولة.

عند الحديث عن سياسة الاستعمار، لا يمكن أن نغفل السياقات الحضارية والثقافية، لا سيما في معرض الحديث عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، إذ تتصل عمليات النهب والتدمير والتهجير بشكل مباشر بسياسة ديفيد بن غوريون، والتي استمرت في سياقها التاريخي المتصل حتى اللحظة. وبن غوريون نفسه عبر عن تراث النهب الصهيوني في مقولته الشهيرة: "لقد تبيَّن أن معظم اليهود لصوص، أقول ذلك بصورة متعمدة وببساطة، لأن هذه هي الحقيقة للأسف".

يفتتح عميت كتابه بعبارة صاغتها الباحثة البريطانية ماري بيرد، وهي أن المكتبات ليست أمكنة تخزين الكتب، فهي بعيدة كل البعد عن البراءة والسذاجة، ومن الجائز أن هذا هو السبب وراء استناد تأسيس الكثير من المكتبات الضخمة على نماذج القلاع. يطلق عميت على العنف الموجه ضد المكتبات في القرن العشرين اصطلاحاً اسم "إبادة المكتبات". وفي إطار بحثه الطويل في أرشيف "المكتبة الوطنية الإسرائيلية" القائم على النهب، يشير عميت إلى أن الكتب المجتمعة تكشف عن علاقة الصهيونية مع الاستشراق الأوروبي واستخدامها للخيال الكولونيالي بغية إدراك ذاتها وتأسيس هويتها، إذ أن هذه الكتب تذكرنا بعملية المحو والنسيان التي فرضتها الصهيونية على مريديها ورعاياها. ويرصد علاقة الاستعمار بالملكيات الثقافية، فتاريخ الحضارة البشرية مشبع بنهب الكتب والمكتبات والمخطوطات وسرقتها وتدميرها، وتعود جذور نقل الممتلكات الثقافية الإنسانية من المهزومين إلى المنتصرين إلى بدايات الحروب.

كتاب عميت جاء تطويراً لدراسة سابقة تحمل الموضوع نفسه، انطلق منها المخرج الإسرائيلي بيني برونر في تصوير فيلمه "سرقة الكتب العظمى" الصادر عام 2012. صوّر برونر أروقة المكتبة والتقى القائمين عليها، كما أدرج شهادة نصر الدين النشاشيبي الذي رأى بأم العين استيلاء العصابات الإسرائيلية على مكتبة أسرته، وكان حينها في العشرين من عمره.

يلتقي برونر في فيلمه بالمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه والذي يعلق بدوره أن عمليات النهب كانت ذات مستويين فردية ومؤسساتية، الأمر الذي يشير إليه أيضاً المؤرخ الإسرائيلي آدم راز، في مقابلة مع صحيفة هآرتس، إثر صدور كتابه "نهب ممتلكات العرب في حرب الاستقلال"، إذ قال إن "العديد من شرائح الجمهور الإسرائيلي متورطون في نهب وسلب ممتلكات العرب، لقد انتشر النهب كالنار في الهشيم بين الجمهور اليهودي".

يفتتح برونر فيلمه بكلمات مؤثرة يرثي فيها المفكر الفلسطيني خليل السكاكيني مكتبته التي نهبت من بيته في القدس: "الوداع يا مكتبتي! يا دار الحكمة يا رواق الفلسفة، يا معهد العلم يا ندوة الأدب، الوداع يا كتبي النفيسة القيمة المختارة.. لست أدرى ما حل بك بعد رحيلنا، أحرقت، أنقلت معززة مكرمة إلى مكتبة عامة أو خاصة؟ أصرت إلى دكاكين البقالين يلف بأوراقك البصل؟".

بكلمات أخرى يتساءل نصر الدين النشاشيبي مستنكراً "ماذا حل بكتبي وبمكتبة عائلتي؟" ليأتي الجواب مؤكداً في الفيلم بأنها سرقت وأودعت في أقبية مكتبة الاحتلال.

يقول برونر في معرض حديثه عن الفيلم "علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، أن نكون في الجانب الصحيح من التاريخ، أو كما يحب البعض أن يقول علينا أن نعترف بدورنا في خلق مأساة لأناس آخرين، هذا هو دافعي أساساً"

المساهمون