- تسجيله لأغنية "ليه يا بنفسج" يشهد على استمرارية تأثيره الفني بمشاهدات تصل إلى الملايين على يوتيوب، مما يدل على أن الطرب الأصيل لا يزال يجد صداه بين الأجيال الجديدة.
- الإنترنت والمنتديات الموسيقية الإلكترونية ساهمت في إعادة إحياء اهتمام الشباب بأعمال صالح عبد الحي وأمثاله من علامات الغناء في عصر النهضة، مؤكدة على أن الفن الأصيل يظل عصيًا على الزوال ومصدر إلهام للأجيال.
ربما يتساءل المهتم بفنون الغناء عما بقي من مطرب بوزن صالح عبد الحي أو عن مدى معرفة الجيل المعاصر برجل عاش حياته كلها منحازاً إلى ذلك النمط القديم من الغناء، الذي ازدهر منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى أواخر عشرينيات القرن الماضي، وتمسك به عبد الحي حتى رحيله في عام 1962.
الإشكال في هذا التساؤل يتمثل في اعتبار أن "الجيل المعاصر" واقع تحت هيمنة ذوق فني واحد، وهو حتماً ليس كذلك، كما كان أسلافه من "الأجيال القديمة" غير خاضعين إلى ذوق موسيقي محدد، بل كانت تتنازعهم اتجاهات مختلفة تحت عناوين متعددة، كلاسيكية أو حداثية، أو تطوير مهجن يحاول التوفيق بين متطلبات العصر وبين أصول موروثة لها قيمتها واحترامها.
إدراك هذا التنوع الواسع الذي لم يغب يوماً عن الحياة الغنائية هو مفتاح أساس لفهم حيازة صالح عبد الحي قدراً لا بأس به من الجماهيرية بين الشباب الباحث عن غناء دسم، يمنح المستمع تلك الحالة العصية على الوصف، التي اعتاد الناس تسميتها بـ"الطرب".
يمكن لمن يتجول بين المنتديات الموسيقية المتخصصة، أو يبحث عن اسم صالح أفندي، أن يلمس اهتمام قطاعات من الشباب بهذا المطرب الجبار. تسجيله الشهير لأغنية "ليه يا بنفسج" يحقق على إحدى قنوات "يوتيوب" أكثر من مليون ومئتي ألف مشاهدة، مع ألف ومئتي تعليق، جميعها يشيد ويبجل ويعظم بصوت الرجل وبهذا اللون من الغناء.
قد تكون تلك الطقطوقة التي كتبها بيرم التونسي ولحنها رياض السنباطي أشهر أغنيات عبد الحي، وقد يرى المستمع اليقظ أنها لا تمثل اللون القديم الذي بنى عليه صالح أفندي سمعته الذهبية في عالم التطريب والسلطنة، لكنها غالباً ما تكون معبراً آمناً يأخذ غير المتمرس إلى كنز التسجيلات التي خلّفها الرجل في العشرينيات والثلاثينيات، أيام جبروته الصوتي وعنفوانه الأدائي. وهو كنز ضخم جداً، يتجاوز 300 تسجيل متنوع ما بين قصائد وأدوار وطقاطيق وموشحات ومواويل ووصلات غنائية إذاعية.
في كثير من الأحيان، كانت تسجيلات عبد الحي ممرّاً يأخذ المستكشف إلى عالم أوسع لأعلام الغناء في ما يعرف بعصر النهضة، من أمثال يوسف المنيلاوي أو عبد الحي حلمي، وهو خال صالح وأستاذه الأول، أو سيد الصفتي وسليمان أبو داود وزكي مراد وعلي الحارث. وقد انتبه عباس محمود العقاد إلى هذا الجانب في فن عبد الحي، وعبّر عن ذلك في مقال تأبيني كتبه عقب رحيل صالح عبد الحي بأيام. وفيه يقول: "كان هو الصلة الأخيرة بين عهدين منفصلين من عهود النهضة المجددة في فنون الغناء والموسيقى والتلحين، وهما: عهد عبده الحامولي ومحمد عثمان، وعهد أم كلثوم وعبد الوهاب".
يضيف: "كان صوته كالماء العذب النقي يأخذ من كل إناء لونه كما يأخذ من كل إناء شكله، واستطاع بهذا الصوت الغني المثالي أن يحاكي عبده، والمنيلاوي، وعبد الحي حلمي، وسلامة حجازي، ومحمد السبع وإخوانهم وزملاءهم أبناء المدرسة السابقة، فلم يَقصُر عن واحد منهم بحلاوة النغمة، وامتداد النفس، وطمأنينة المُعلم المرتاح في جلسته وإشارته، ولا أذكر أنني رأيت مغنياً قط يستوي على التخت مثل استوائه، ويمتزج بأعضاء التخت الآخرين مثل امتزاجه".
و"الاستواء المطمئن" على التخت الذي يتحدث عنه العقاد يدركه المستمع بسهولة مع إنصاته لأي تسجيل من تسجيلات عبد الحي، فغناؤه يؤثر في النفس كونه يصدر من دون أي جهد أو تكلف: صوت واسع المساحة، ممتلئ، جلي، لذيذ العُرب، طيع مع الزخرفة والاستعراض، محكم عند القفلات. كل هذه العوامل تضافرت لتعطي المستمع معنى الرسوخ والاستواء.
ومع موهبته الكبيرة، تأسس عبد الحي تأسيساً فنيا متيناً، تمثل في عمله مبكراً مذهبجياً خلف خاله، المطرب الأشهر عبد الحي حلمي، الذي رحل عام 1912، حين كان عمر ابن شقيقته 16 عاماً فقط. حفظ الفتى من خاله محصلة غنية من الأدوار والقصائد والموشحات والمواويل، ثم صقل موهبته من خلال العمل مع فِرَق القانونجيين الشهيرين محمد عمر وعلي الرشيدي. ثم ختم مرحلته التأسيسية بالتتلمذ للموسيقي الشيخ درويش الحريري.
خلال سنوات قصيرة، ومع دخول عقد العشرينيات من القرن الماضي كان صالح عبد الحي قد بلغ ذروة المجد الفني. أصبح من أهم مطربي القطر المصري، وصار في مكانة لا ينازعه فيها أحد، وارتفع أجره إلى مستويات لم تعرفها أوساط المطربين من قبل. عاش حياة ترف وبذخ وملذات. كان مطلب الأثرياء وعلية القوم في أفراحهم ومجالس أنسهم. تجلس الجماهير أمامه بأعداد غفيرة، ثم ينطلق بغنائه - قبل ظهور مكبرات الصوت - فيدب الطرب في المستمعين حتى يفقدوا وقارهم، فيخلعون عمائمهم، ويقذفونه بطرابيشهم، وسط صيحات الوجد والاستحسان المتصاعد مع درجات الصوت الجبار.
في الحياة الفنية العربية، وعند الاحتفاء بمشاهير المغنين والمغنيات، اعتادت الصحافة ووسائل الإعلام أن تضفي على المُحتفى به كثيراً من أوصاف المبالغة، حتى لو كانت زيفاً محضاً، ومن هذه الأوصاف الشائعة والمحببة للصفحات الفنية العربية أن المطرب "أدى كل قوالب الغناء"، ثم يكتشف من يتتبع الشائعة أن الموصوف لم يقرب بعض أهم القوالب الغنائية الرئيسية. لكن هذا الوصف ينطبق على صالح عبد الحي من دون تزيُّد أو مبالغة. أدّى الرجل كل الأشكال الرئيسية للغناء: القصائد، والأدوار، والموشحات، والطقاطيق، والليالي، والمواويل.
يكشف مسرد أعمال صالح عبد الحي عن غنائه عدداً من عيون القصائد العربية، وفي مقدمتها "أراك عصي الدمع" التي ترك منها أربع تسجيلات مختلفة. كما غنى قصائد: "كم بعثنا مع النسيم سلاماً"، و"عجبت لسعي الدهر"، و"فتكات لحظك أم سيوف أبيك"، و"غيري على السلوان قادر"، و"قرطبة الغراء". لكن تفننه الأكبر يتجلى واضحاً عند أداء الأدوار، وهي بطبيعتها ميدان الطرب الفسيح، والتصرفات البديعة.
ويمكن التنبيه إلى أدائه لأدوار: "جددي يا نفس حظك"، أو "بستان جمالك"، أو "أد ما أحبك زعلان منك"، أو "ياما أنت واحشني"، أو "في البعد ياما كنت أنوح"، أو "عهد الأخوة نحفظه"، أو "على روحي أنا الجاني". وإذا كانت الآهات من أهم مواضع التفنن في الدور، فقد كانت تزداد روعة بأداء صالح. ويستحق المتطلع إلى الطرب إشارة سريعة إلى أدائه دور "قدك أمير الأغصان"، وتحديداً في تسجيل شركة كولومبيا، إذ يجتمع الجمال مع القوة، ويتنافس المطرب مع بطانته. كان أداء صالح في التسجيل استثنائياً، لم يتكرر في تسجيلات أخرى لنفس الدور.
مع انتصار موجة الحداثة الغنائية في الثلاثينيات، وتولية القطاعات الأوسع من الجماهير وجهها إلى غناء مختلف، يتزعمه عبد الوهاب وأم كلثوم، وترسخه السينما، بدأت رحلة انحسار السطوة الفنية لصالح عبد الحي. كان المشهد الحداثي أشبه بالقدر المقدور، لا مفر منه ولا مهرب، ولا سبيل إلى موجهته بعد أن استوفى كل أسبابه المنطقية.
لكن هذا الانتصار، لم يكن يعني القضاء على المدرسة القديمة قضاءً تاماً؛ إذ بقي لها أنصار يقدرونها ولا يرضون بها بديلاً، ولعل هذا كان من أسباب وجود صالح عبد الحي في فقرة أساسية من فقرات يوم افتتاح الإذاعة المصرية في 31 مايو/ أيار عام 1943. بقيت لهذا اللون مساحته، التي تستمد مشروعيتها من تنوع الذوق الجماهيري.
ثم جاءت ثورة يوليو عام 1952، فأخذ الاهتمام المحدود بالطرب الكلاسيكي في صورته القديمة يتقلص رويداً رويداً، إلى أن أزيح تماماً من البث التقليدي اليومي، إلى بث تحت لافتات وعناوين ترسخ في وعي الجماهير صورة من صور الآثار والماضي، فهو لا يُسمع إلا تحت عنوان "ألحان زمان"، ولا يصادفه المستمع إلا ضمن برامج متخصصة تؤكد أثريته وماضويته. وكان ظهور التلفزيون خطوة كبيرة في تأكيد نهاية "الطرب المحض"، ثم جاءت شرائط الكاسيت لتكون الشهادة الرسمية العملية على هذا النمط الغنائي، بل على زوال أنماط أكثر منه حداثة.
لكن بعد عقود، يدور الزمان دورته، ويأتي عصر الإنترنت، والمنتديات الموسيقية الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلالها يبدأ الهواة في نشر بعض من كنز صالح عبد الحي ورفقائه، فتلفت انتباه مئات من الشباب القادر على الإنصات، ثم تتسع دائرة المئات إلى آلاف، ثم عشرات الآلاف، ويتضخم كنز التسجيلات المتاح لأعلام عصر النهضة. لم يكن الإنترنت كالسينما أو التلفزيون أو الكاسيت سبباً إضافياً لنسيان الطرب التليد، بل كان منصة إحياء، وباباً للاستعادة. كان وسيلة للإقرار باختلاف أذواق أبناء الجيل المعاصر، وبأن صالح عبد الحي، عصي على الاندثار.