سعيد مراد و"صابرين"... إن الليل زائل

21 يناير 2024
فرقة صابرين في عام 1995 (أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي)
+ الخط -

لم يصبح حي الشيخ جراح، في مدينة القدس المحتلة، مقصداً لمحبي الغناء والموسيقى من لا شيء، فهناك يقع مقر جمعية "صابرين" للتنمية الفنية، والاستوديو الخاص بتسجيلات الفرقة التي حملت نفس الاسم. هنا، يجد المطربون والموسيقيون الفلسطينيون كل ما تشتهيه أنفسهم من إمكانات تقنية.

الفرقة والجمعية والاستوديو، كلها كانت ثماراً لجهود قديمة، بذلها الملحن والموزع الموسيقي الفلسطيني سعيد مراد (1958)، الذي ارتبط اسمه دائماً بـ"صابرين"، تلك الفرقة الموسيقية التي أسسها عام 1980، وكانت لها آثار عميقة، على كل الفرق الغنائية، وعلى المشهد الموسيقي كله في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أن اختار لها مؤسسها طريقاً مرسوماً، ينحاز إلى ما يُعرف في فلسطين بالموسيقى الملتزمة، والغناء المنشغل دائماً بخدمة الهوية الفلسطينية، وحماية ذاكرة الجماهير، وإبقاء الأهداف العليا في التحرر والاستقلال ماثلة في الوعي الجمعي الفلسطيني، حتى في لحظات الاستمتاع بالنغم أو العزف والغناء.

يتذكر سعيد مراد المناخ الذي ولدت فيه فكرة الفرقة، وكيف كان العازفون محدودين للغاية، وأعداد المطربين قليلة جداً، ولا تتوفر أماكن مجهزة بما يلزم للتسجيل والمونتاج. لا مسارح صالحة ولا استديوهات حديثة. أدرك أن مواجهة هذه الظروف المستقرة تحتاج إلى تغيير في الأفكار والتعليم والإعلام، وكان إنشاء الفرقة هو الخطوة الأولى التي ستليها خطوات مهمة، انعكست على الحياة الموسيقية في مدن فلسطين.

ضمّت الفرقة عدداً من الفنانين، منهم كاميليا جبران، مغنية أساسية وعازفة على عدد من الآلات الوترية والإيقاعية، وعودة ترجمان، مغنياً وعازفاً على الكمان الجهير، وعيسى فريج، على الغيتار والكمان والتشيلو، ويعقوب أبو عرفة على الإيقاعيات، وعصام مراد مهندس الصوت وعازفاً على الطبول، وسامر مسلم مغنياً مساعداً، ووسام مراد، مغنياً وعازفاً على العود والإيقاعيات والكيبورد.

ثم جاءت الخطوة الثانية عام 1987، بتدشين جمعية صابرين للتنمية منظمة مجتمعية غير حكومية، تهدف إلى تطوير الموسيقى في فلسطين، لينطلق سعيد مراد وفرقته في تنظيم الأنشطة الصيفية وورش العمل والتدريب التي أفاد منها العديد من الموسيقيين الفلسطينيين. وفي ضوء النجاح الكبير لمراد، أبرمت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية معه اتفاقاً تولّت بموجبه فرقة صابرين تدريس منهج الموسيقى في المدارس الفلسطينية.

كان المردود الفني لهذه الخطوة كبيراً، وكانت السبب الرئيس في ظهور عدد من الفنانين الفلسطينيين، من المطربين والعازفين والملحنين والمؤلفين والمتخصصين التقنيين في الصوتيات والتسجيل. وفي عام 2007، أطلقت جمعية صابرين للتنمية الفنية برنامج "يوروفيجن الفلسطيني" بالشراكة مع هيئة الإذاعة الفلسطينية ومجموعة شركات سوبرفليكس، بهدف مشاركة فلسطين في مسابقات الأغنية الأوروبية.

وبإشراف خبراء نرويجيين، قدمت الفرقة خبراتها للطلاب والمعلمين والمديرين. بدأ التدريب بمعلمي الموسيقى، ثم اتسع ليشمل كثيراً من أصحاب الاستعداد للتطور. وبالجهود المتواصلة، استطاع مراد أن يجعل من فرقته ومن الجمعية حاضنة فنية كبرى لرعاية الموسيقى والغناء، وتقديم العود الفني والإنتاجي والإعلاني للفرق الفلسطينية. وقد استمرت الفرقة في شراكتها مع وزارة التربية والتعليم، بمدارس الضفة الغربية، ومدارس الأونروا في قطاع غزة، ومدارس البطركية اللاتينية، بدأ من عام 1993 ولمدة 14 عاماً، قبل أن تتوقف منتصف عام 2007.


  
منذ انطلاقتها أوائل الثمانينيات، أصدرت فرقة "صابرين" خمسة ألبومات، جاء كل واحد منها معبراً عن المرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية وقت الإصدار. وتمثيلاً، حمل الألبوم الأول عنوان "دخان البراكين"، وجاء متواكباً مع مجازر صبرا وشاتيلا عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان.

في المقابل، حمل الألبوم الثالث الذي صدر عام 1994 عنوان "جاي الحمام"، تأثراً بحالة التفاؤل التي شاعت عقب اتفاق أوسلو، قبل أن تنتكس إلى إحباط ويأس، ثم تردد وحيرة، تُرجمت في الإصدار الرابع الذي أخذ عنوان "على فين؟". وفي الألبومات الأربعة الأولى، كانت البطولة الغنائية للمطربة كاميليا جبران، التي تركت الفرقة لاحقاً وهاجرت إلى فرنسا عام 2004.

وكان الألبوم الخامس بصوت الممثل الفلسطيني محمد بكري. تميزت أغنيات "صابرين" بنصوصها المختارة بعناية، من مجموعات كبار شعراء فلسطينيين وعرب، وفي مقدمتهم محمود درويش، وسميح القاسم، وطلال حيدر، وسيد حجاب، وفدوى طوقان، وحسين البرغوثي.

اختار سعيد مراد الوقوف في منطقة تمزج بين الموسيقى الكلاسيكية القديمة والأنماط الحداثية الغربية، وظهر هذا في بناء الألحان وفي الآلات المستخدمة، وفي أساليب العزف. انفتحت فرقة صابرين على أنماط متباينة من موسيقات الشعوب في الهند وأفريقيا، كما تأثرت كذلك بأشكال متنوعة من الجاز والبلوز. أنتجت الفرقة عدداً من الألبومات الغنائية لفرق أخرى، إضافة لاهتمامها بالعروض المسرحية والتلفزيونية، ووضع الموسيقى التصويرية للأفلام السينمائية.

يمكن لمن يريد التعرف إلى أعمال فرقة صابرين أن يتوقف عند ألبومها الأول، "دخان البراكين"، وتحديداً أغنية "عن إنسان" للشاعر محمود درويش: "وضعوا على فمه السلاسل.. ربطوا يديه بصخرة الموتى.. وقالوا أنت قاتل.. أخذوا طعامه والملابس والبيارق.. ورموه في زنزانة الموتى.. وقالوا أنت سارق.. طردوه من كل المرافئ.. أخذوا حبيبته الصغيرة.. وقالوا أنت لاجئ.. يا دامي العينين والكفين.. إن الليل زائل.. لا غرفة التوقيف باقية.. ولا زرد السلاسل.. نيرون مات ولم تمت روما.. بعينيها تقاتل.. وحبوب سنبلة تموت.. ستملأ الوادي سنابل".

لحّن مراد الأغنية، وشارك في تسجيلها بالعزف على العود والإيقاع، وغنتها كاميليا جبران مع العزف بنفسها على القانون، وشاركها بالغناء عودة ترجمان مع العزف على الكونترباص، واشترك عيسى فريج بالعزف على الغيتار، وجمال مغربي على البزق.

ومن الأغنيات اللافتة في نفس الإصدار "حب على الطريقة الفلسطينية"، للشاعر عبد اللطيف عقل: "أعيشك في المحل تينا وزيتا.. وألبس عريك ثوبا معطر. وأبني خرائب عينيك بيتا.. وأهواك حيا وأهواك ميتا.. وإن جعت أقتات زعتر. وأمسح وجهي بشعرك الملتاع.. يحمر وجهي المغبر.. وأولد في راحتيك جنينا.. وأنمو وأنمو وأكبر. وحين أساق وحيدا.. لأُجلد بالذل.. أُضرب بالسوط في كل مخفر. أحس بأنّا حبيبان.. ماتا من الوجد.. سمرا وأسمر.. تصيرينني وأصيريك.. تينا شهيا ولوزا مقشر.. وحين يهشم رأسي الجنود.. وأشرب برد السجون.. لأنساك.. أهواك أكثر". وهكذا يصوغ عقل مفردات الغزل الفلسطيني، من التين والزيتون والزعتر والذل والسوط والمخفر وتهشيم الرأس وبرد السجون. كان صوت كاميليا جبران في هذه الأغنية في غاية النضارة.

ولد سعيد مراد عام 1958 في الحي الإسلامي في مدينة القدس، وشُغف مبكراً بالموسيقى والغناء، والحقيقة أنه تمرس لسنوات طويلة وبدرجة صقلته وأنضجته قبل تأسيس فرقة صابرين، ومن محطات رحلته الفنية التي لم تحظ بتسليط الضوء اللازم، تلك السنوات السبع التي قضاها في فرقة الكواكب بين عامي 1972 و1980، إذ كان يتمرن على العزف خمس ساعات يومياً، ثم كانت تدشين "صابرين" استجابة لمتطلبات فنية وسياسية واجتماعية حضرت في الساحة الفلسطينية. وبسبب هذه الاستجابة والمواكبة، كان استقبال الجماهير للفرقة مدعوماً بالتقدير والإعجاب، وفتحت الأساليب الغنائية والتلحينية أبواباً جديدة، لتمر منها فرق فلسطينية تأسست تالياً.

لم يدخل مراد في معارك حول القديم والجديد، ولا الأصيل والدخيل، ولا التراث والحداثة، وإنما اعتبر أن كل الأنماط الموسيقية تمثل روافد إلهام. فمعركة الإنسان الفلسطيني بحاجة إلى العود الشرقي، والبلوز الغربي، والإيقاع الأفريقي. ورغم المسيرة العريقة لمراد، وتحول مؤسسته إلى راعٍ كبير لكل هواة الموسيقى في القدس وعموم فلسطين، إلا أن تجربته مع أطفال المدارس، ستبقى ضمن أهم ما قدمه فنان لأمته.

المساهمون