"تساؤلات" صفاء الليثي: "الكتابةُ رغبةٌ حقَّقْتُها لأشعر بأني أعيش"

03 فبراير 2023
صفاء الليثي: "لا أعتقد أنّ هناك مَنْ كان أسعد منّي في طفولتي" (فيسبوك)
+ الخط -

"لا أعتقد أنّ هناك مَنْ كان أسعد منّي في طفولتي". هكذا تقرّر صفاء الليثي، المونتيرة سابقاً والناقدة حالياً، في أحدث إصدار لها، بعنوان "تساؤلات في السينما والحياة" (ص 28)، الصادر عن "دار روافد للنشر والتوزيع" (القاهرة، 184 صفحة، إشراف فني وتصميم غلاف متميز لأحمد اللباد).

في الكتاب، تنسب الليثي سرّ سعادتها إلى السينما، التي منها ترتوي منذ طفولتها في قريتها، التي لم يكن لها وجود على الخريطة: "وجدتُ في شاشة السينما حياة أكبر" (ص 7)، بفضل شقيقها الفنان التشكيلي فخري الليثي، وشقيقتها الأكبر وفاء، الطبيبة النفسية. كلّ منهما كان يصطحبها إلى السينما، فردياً وأحياناً جماعياً، فعاشت حكايات الأفلام، وتشرّبت كثيراً من النقاشات التي كانت تدور حولها، ما منحها وعياً باكراً.

الليثي محظوظة كذلك بوالديها. والدتها، وإنْ لم تحبّ مشاهدة الأفلام والذهاب إلى صالات السينما، امرأة قوية ومثقفة ومستنيرة، لم تحرم أبناءها ممّا يتطلّعون إليه، وإن لم تكن تحبّه. والدها كريمٌ مع أولاده، يمنحهم المبالغ اللازمة لأمسيات السينما، رغم أنّه منشدٌ ديني، ويكتب الزجل. لكنّه كان يترك قراءته أمام العائلة لابنه الأكبر، لأنه خجولٌ.

في حالتي البوح والتداعي، ترسم المؤلفة صورة للعصر الذي نشأت فيه، بـ"رتوش" للظروف الاقتصادية، خاصة غلاء الأسعار في عهد الرئيس السابق أنور السادات، والإضرابات والمظاهرات الطالبية، والتقاليد الاجتماعية، وثقافة احترام السينما، والتعامل معها بإكبار وإجلال. في ذلك، لا تغفل الحالة السياسية للبلد، منذ عام 1959، ثم القرار السيادي بعد هزيمة الـ67، المتعلّق بـ"عدم استيراد الأفلام الأميركية"، مُضيفةً أنّ "الخطاب السياسي وقتها أننا هُزمنا لأننا لا نحارب إسرائيل فقط، ولكن أميركا أيضاً" (ص 28).

هذا القرار السيادي أتاح لصفاء الليثي وأقرانها، ولعدد غير قليل من المصريين آنذاك، مشاهدة أفلامٍ غير أميركية، كالهندية: "أم الهند"، و"من أجل أبنائي"، الذي يقترب من قصة "الحرام"؛ وأخرى إيطالية، كـ"زد" و"انتهى التحقيق المبدئي" و"الحرب انتهت". تكتب: "لا يمرّ أسبوع، حتى يصحبني أخي لمُشاهدة فيلم روسي في سينما أوديون" (ص 36). قبل هذا، تقول (ص 28): "من بين الأفلام "يوم طفت الأسماك على الماء"، و"الموت في فينيسيا"، الذي دخلته بتذكرة بسعر 16 قرشاً ونصف للصالة، و22 قرشاً للبلكون. خمسون قرشاً كانت تكفي تذكرتين وآيس كريم والمواصلات"، وأيضاً: "مثل هذه النوعية من الأفلام، كانت الدافع إلى تفضيل الالتحاق بمعهد السينما على كلية العلوم، التي حلمت بالالتحاق بها دائماً، لأصبح عالمة ذرّة. غيّرتني الأفلام السياسية، فغيّرتُ رغبتي إلى دراسة فنّ المونتاج".

 

 

بفرح وبهجة، تحكي الليثي عن أواخر خمسينيات القرن الـ20 وستينياته، وأوائل سبعينياته، التي تمتزج فيها المشاركة في المظاهرات والنشاط السياسي والتوجّه اليساري، ببداية عملها في المونتاج كمساعدة، ولقاؤها المونتير أحمد متولي، الملقّب بـ"الأسطى"، الذي يتعامل مع المونتاج على أنّه إخراج ثان للفيلم: "كان يحلو له التدخّل في السرد، وإعادة تركيب المشاهد، بما يفيد الدراما والتأثير على المُشاهد، كما كان يعتقد" (ص 42). تروي عن هذا اللقاء بحبّ وموضوعية، وإن تسخر لاحقاً، قائلةً إنّ حبّ المهنة اختلط عليها بحبّ المعلم. تصف موهبته، وتمنحه حقّه المهني في صفحات عدّة. لكنّها تكشف لاحقاً، في أسطر قليلة، عن المرارة والتعاسة اللتين أصابتاها بعد الزواج، إذْ انقطعت عن الدنيا والسينما والعمل، وتفرّغت لتربية أولادها. كانت علاقتها به مُخيّبة لآمالها وأحلامها، كامرأة مختلفة وغير تقليدية.

في الكتاب فجوات عدّة، إذْ تكتفي صفاء الليثي بإشارات ولمحات، لا يُعرف تحديداً هل تركتها عمداً، أم أنّها سقطت سهواً، كالجزء الخاص بأبيها وزوجته، التي تُحبّ الإنشاد. فالليثي لم تروِ عنها شيئاً، تقريباً، كما فعلت مع شجرة العائلة، باستثناء كلمات وأوصاف عابرة، قبل أنْ تقفز إلى مرحلة عمرية أخرى، سقطت منها بسبب الأمومة، وبعد أنْ أصيبت السينما المصرية بأزمتها الشهيرة في تسعينيات القرن الماضي، فانخفض الإنتاج إلى 15 فيلماً في العام، بعد أنْ كان متوسّط الإنتاج نحو 60 فيلماً. حظّها منهما توليف فيلمي "الحجر الداير" (1992) لمحمد راضي، و"ثلاثة على الطريق" (1993) لمحمد كامل القليوبي.

بعد أعوامٍ، عادت صفاء الليثي إلى المشاهدات السينمائية في "مهرجان القاهرة". كانت تشعر بالغربة أحياناً. لكنْ، في النقاشات التي تعبّر فيها عن آرائها، لاحظت تشجيع البعض لها بأنْ تكتب تحليلاً للأفلام، فكانت الانطلاقة مع أزمة "هستيريا" (1998) لعادل أديب، متمثّلة بأول مقالة لها منشورة في مجلة "الفنّ السابع"، التي أصدرها الممثل والمنتج محمود حميدة، بعنوان "المونتير ليس حاوياً والمونتاج يبدأ من السيناريو". في ص 70، تناولت كواليس الأزمة: "اتّهمت المنتجة ناهد فريد شوقي المونتاج بأنّه أساء للفيلم، وأنّه سبب فشله جماهيرياً، وساندها في ذلك كثيرٌ من المونتيريين، حيث كان الفيلم في مقدّمة الأفلام التي تعاملت مع أجهزة المونتاج الحديثة، المونتاج غير الخطي، أو غير الميكانيكي. كانت هذه الثورة التقنية تُقابَل بالرفض الشرس من المونتيريين التقليديين، الذين لا يعرفون التعامل مع أجهزة الكومبيوتر، والذين تعوّدوا على العمل على أجهزة المافيولا".

تنتقل الليثي إلى تجربتها مع النقد، وكيف حاول كثيرون حصرها في الكتابة عن المونتاج فقط، بينما تريد الكتابة في كلّ شيء، من زوايا متنوّعة. جاءت من فنّ تركيب الفيلم (المونتاج)، ما ساعدها على القيام بدور الناقدة بامتياز، لأنها تُدرك تفاصيل الفيلم عندما تفكّكه.

لا شكّ أنّ "تساؤلات في السينما والحياة" مهمّ، يمزج بين الفردي والجماعي، كاشفاً تحوّلات المجتمع المصري بين فترتين تاريخيتين، والنظرة المقلوبة للفنون والسينما، خاصةً بعد التدخل الرقابيّ لدول خليجية، وانتشار إسلامٍ محافظ، والمغالاة والتشدّد إزاء مشاهد القبلات والحميميّ، باسم "الأخلاق". الكتاب شهادةٌ توثيقية مهمّة، تُحسب لصفاء الليثي، رغم ملاحظات تؤخذ عليه، إذْ كان يحتاج إلى إعادة تحرير، وتعميق تفاصيل وحكايات، وحذف أخرى، ليكون له وقع أكثر تأثيراً، فهناك فقرات ومشاهد مهمّة عن شخصيات متناثرة بين الصفحات، ما أضاع الأثر الدرامي المتراكم، من دون كشف التناقض بين الموهبة المهنية وضعف الشخصية الإنسانية، والعكس.

مع ذلك، في الكتاب حكايات وخواطر ظريفة وساخرة، لا تخلو من دلالة رمزية قوية: مثلاً، ولعها وإعجابها الشديد كامرأة بالمطرب كاظم الساهر، في نهاية التسعينيات الفائتة؛ وكيف أنّها بدأت كتابة سيناريو لفيديو كليب، كان سيخرجه مدير التصوير المصري محسن أحمد، لكنه انشغل في التصوير، ولم ينجز المشروع. كما أنّ لها محاولتين في كتابة السيناريو الطويل، تحكي عنهما تفصيلاً، رغم عدم تحقيقهما.

في الفصل الثاني، تطرح تساؤلات مشاغبة، محاولة تفسيرها، وإن بغير دقة أحياناً. مثلاً: "لماذا أنا مغرورة؟ لماذا أنا رومانسية؟ لماذا أنا عنصرية؟ لماذا أنا معارضة؟ لا حزبية ولا أممية؟ لماذا فشلت في السياسة؟" (ص 128). بذلك كلّه، تكشف تناقضاتها، أحياناً. كما أنّها تؤكّد على حبها الشديد للسينما، ولفنّ المونتاج، تماماً كتأكيدها على عدم ندمها بالتحوّل إلى الكتابة النقدية. تقول (ص 72): "أشعر بأنوثتي، إذا أثنى أحدهم على ما أكتب".

"الكاتبة صفاء الليثي" رغبةٌ حقّقتَها لنفسها، "لا لكسب العيش، ولكنْ لأشعر بأنّي أعيش". في هذا، كتب أحمد غريب في مقدمة الكتاب أنّ الليثي "تأسرنا بتفاصيل الحياة الاجتماعية والإنسانية، المسرودة في طابع روائي" (ص 7).

المساهمون