- سعى بيتهوفن لتقديم عمل ببعد شبه ديني، متجاوزًا النظرة التقليدية للموسيقى كوسيلة ترفيه، حيث تضمنت السيمفونية تداخل الغناء الكورالي مع الأوركسترا لخلق وحدة ونشوة جماعية، معكسة رغبته في تحقيق التآخي بين الناس.
- تحولت السيمفونية التاسعة إلى رمز أيديولوجي للأمل في الأخوة والوحدة بين البشر، واختيرت كالنشيد الرسمي للاتحاد الأوروبي في 1985، مؤكدة على رسالتها العالمية التي تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، وتشدد على الحاجة إلى فهم أكثر شمولية للإنسانية.
يكاد ذكر السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في معرض الحديث عن الموسيقى، أن يكون علامةً على تسطّح الثقافة الموسيقية لدى المتحدّث، أكثر منه دليلاً على تعمّقها وتبحرها. ذلك أن المقطوعة الملحمية، التي مرّت الثلاثاءَ الماضي 200 عام على تقديمها لأول مرة سنة 1824 على خشبة مسرح "الممر الكارينثي" (Kärntnertortheater) في فيينا، عاصمة النمسا اليوم، تُعدّ المقطوعة الكلاسيكية الأكثر شعبية. لا يُنازعها ربما، سوى باليه "بحيرة البجع" للمؤلف الروسي بيتر تشايكوفسكي، أو قصيدة "شهرزاد" السيمفونيّة لمواطنه ريمسكي كورساكوف، على الأخص ضمن المنطقة الناطقة بالعربية، نظراً إلى استلهام الشرق لحناً وموضوعاً.
لودفيغ فان بيتهوفن (1770 - 1827) الذي قارب حينذاك على الخمسين، وكانت تجربته قد نضجت وتبلورت، لم يغب عن ذهنه تصوّر رواج السيمفونية وسعة انتشارها. وبالتالي، لم يحدث ذلك بمحض الصدفة، أو بلغة اليوم، بأثر ظاهرة فيروسية غير متوقّعة، وإنما نُظر إليها من البداية بوصفها مشروعاً فنيّاً هادفاً وموجَّهاً، ليس فقط إلى جمهور، وإنما جماهير.
لأجل ذلك المشروع، وظّف المؤلف مجمل الأدوات التعبيرية التي حازها، بنيّة وقصد إيصال رسائل اجتماعية وسياسية، تحديداً للطبقة البرجوازية الأوروبية الصاعدة مقتبلَ القرن التاسع عشر؛ إذ يمكن الجزم بأن العمل، من حيث التصميم والتضمين، قد تعدّى بصداه الشعبية إلى الشعبويّة، نظراً إلى قدرته، إن وُضع في سياق بيئته، على الاستمالة الشعورية والعاطفية، فإحداث تجربة سمعية، تُخلق وحدة حال جمعية ونشوة تشبه إلى حد بعيد ما يُصيب الجموع بحضور خطيب مفوّه.
سعت البروجوازية الصاعدة التي صبا بيتهوفن نحوها، إلى منظومة جديدة من القيم الأخلاقية والروحية والجمالية، تتجاوز مؤسسة الكنيسة السيّدة منذ العصور الوسطى، إلى عَلمانية عالمية، وإن بالمعنى اليورو- مركزي الضيّق. هكذا، وجدت لها في التجربة الفنية، سواءً على نطاق فردي أو جمعيّ، نوعاً من ممارسة دينيّة حداثية، نُظّر إليها حينئذ تحت مظلة فكرية تُعرف اليوم بمصطلح "المثالية الألمانية" (German Idealism).
تتجلّى هكذا مقاربة شبه دينية للفن عموماً وللموسيقى على وجه الخصوص في مقالة نقدية، كتبها سنة 1827 عالم الموسيقى الألماني برنارد ماركس في صحيفة كانت تصدر في يرلين، دافع عبرها عن العملقة الزائدة غير المسبوقة في عمران السيمفونية التاسعة لبيتهوفن لا سيما تداخل الجوقي، أي غناء الكورال، بالسيمفوني، أي الأوركسترا، إذ كتب:
"لدى سماع أصوات الحناجر والآلات سويّةً، تُمنح الأصوات الآدمية فخر المنزلة التي كانت للإنسان عِند بدء الخلق، إذ تتضمّن الترانيم كلّاً من أثر الكلام وقوة الموسيقى اللذين بحوزة البشر، فيجسّدان ما هو إنساني، ثم يوضعان في علاقة تقابلية مع المادة الموسيقية الصادرة عن الآلات، التي تُمثّل بدورها ما يسمو إلى ما وراء الإنسان".
ففي اعتماد التقابل، ثمة إشارة من برنارد ماركس إلى صيرورة جدليّة تطورية، تعتمد اللغة الفلسفية للمثالية الألمانية، تستشرف مجتمعاً جديداً، يصبو إلى عقيدة روحية ورابطة إيمانية منبثقة عن الماضي، ومنسلخة عنه في آن.
كان قد لمّح أيضاً إلى البعد الأيديولوجي للموسيقى في ثنايا السيمفونية التاسعة لبيتهوفن مراسلٌ لصحيفة موسيقية متخصصة سنة 1824، كانت تصدر من مدينة لايبزيغ الألمانية، حينما وصف الكورال في الحركة الأخيرة، ذي اللحن الأشهر في تاريخ الموسيقى والمعروف بأنشودة الفرح، بأنه "تحية لفن الموسيقى الإلهي"، مُطلقاً على مبتكره، بيتهوفهن، لقب "كاهن رفيع".
ترمز المقاربة الكهنوتيّة لبيتهوفن ضمن هذا السياق المجازي، إلى مقدرته الدعوية على التأثير بالناس عبر وسيط الموسيقى، إذ إن عبقريّته تتجلى في "أنشودة الفرح"، من خلال بساطة اللحن ونفوذيّته، التي تؤدي بالمستمع إلى سرعة التأثّر به، ومن ثم حفظه وترديده ليس لأجيال، بل لقرون، وليس ضمن أوروبا وحسب، وإنما حول العالم أجمع.
كما يمكن النظر إلى استخدام لغة دينية في توصيف عمل أوركسترالي كورالي دنيوي من حيث القالب والوظيفة، على أنه توظيفٌ فنّي جمالي في خدمة عصبة ناشئة، لم تعد المسيحية فيها، سوى مكوّن هويةٍ ثقافي جزئي، وإن بقي متأصّلاً، في مجتمعٍ يعيش تحوّلاً تاريخياً، بدفع من الثورة العلمية والصناعية وما ترتب عليها من هجرة مزارع الأرياف الزراعية إلى مصانع المدن، وتصدّر البورجوازية المشهد الثقافي بتوجّهها الليبرالي إزاء السياسة والاقتصاد والمجتمع.
من شأن كل ذلك، أن قاد بنموذج الدولة القومية الحديثة في أوروبا إلى التبلور، بين منتصف إلى آخر القرن التاسع عشر، حيث شكلت مفاهيم العالمية والإنسانية بالنسبة البورجوازية الأوروبية، وإن من منظور المركزية الأوروبية والإرث الكولونيالي، اللبنة الأساس في بناء الهوية الوطنية لعصر الحداثة، التي كتب بيتهوفن سيمفونيته لتكون لها حاملاً أيديولوجياً موسيقياً علمانيّ الهوى، وإن تضمّن رموزاً مجازيّة، تجد صدى في الخطاب الديني المسيحي.
تلبيّةً للدعوة إلى التآخي، لحّن بيتهوفن لمقطع الكورال في الحركة الأخيرة، قصيدة الشاعر الألماني شيللر "أنشودة الفرح"؛ إذ تغني الجوقة "كل الناس يغدون أخوة". ومن خلال الإنشاد جماعةً فرحاً وتهليلاً، يدعو البشر إلى الترقّي والسمو فوق الاختلاف المؤدي إلى الفُرقة والاحتراب، اللذين ظلّا يُمزّقان القارة الأوروبية طوال فترة حياته.
ولعله هذا الدور المأمول الذي لعبته السيمفونية الأشهر في التاريخ كحامل أيديولوجي موسيقي لمشروع دولة قومية حديثة عسى طوباويّتها أن تُضيء ظلام الحرب والخراب، هو ما حدا بالمؤلف الرومانسي الألماني روبرت شومان (1810 - 1856) أن يكتب: "كما أن لدى إيطاليا مدينتها نابولي، ولفرنسا ثورتها، ولإنكلترا أسطولها البحري، للألمان سيمفونيّات بيتهوفن".
لعله ذات الدور المأمول الذي جعل من لحن "أنشودة الفرح" سنة 1985 النشيد الرسمي للاتحاد الأوروبي، بعد مضي أزيد من قرن ونصف على العرض الأول في عاصمة النمسا اليوم، فيينا. كانت القارة قد كابدت خلال تلك المدة حربين عالميتيّن، ما تزال تعاني من آثارها النفسية والاجتماعية والسياسية.
أما اليوم، والمشروع الأوروبي يقف عند امتحانات صعبة تتهدد حاضره ومستقبله، ثمة حاجة إنسانية، قبل أن تكون أوروبية لتأوَّل الرسالة العالميّة التي ضمّنها بيتهوفن موسيقاه، وصولاً إلى فهمٍ أكثر شمولية لمعنى الإنسانية وتصوّر أكثر انفتاحاً للأخوة بين البشر، وإلا فإن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن على أهميتها الموسيقية وشعبيتها غير المحدودة، تبقى محض بروباغندا.