الجوائز السينمائية: شرٌّ لا بدّ منه

11 مارس 2024
شانتال أكرمان: السخرية من فيلمٍ لها فضيحةٌ تُهين السينما (Getty)
+ الخط -

الجوائز السينمائية: إفادة أم مجرّد "بيزنيس"؟

 

عند إعلان لائحة المتوّجين بمسابقات مهرجان، أو عن ليلةٍ تحتفي بموسم سينمائي، في بلد ما، يُثار عادةً جدلٌ حول الأحقية بالتتويج، تختلف حدّته بين حالة وأخرى. يتلو ذلك سؤال المغزى أو الفائدة من هذه الجوائز: هل لا تزال تلعب دورها في تحفيز المبدعين على الخلق وتجاوز أنفسهم، أم أضحت مجرّد مناسبة للبهرجة واللغط، ولاستعراض الأزياء، وتبادل الاحتفاء (امنحني الجائزة اليوم، أردّ لك الجميل غداً)؟ ألم تعد اعتبارات من خارج السينما تتحكّم في قرار منح هذه الجوائز، كنفوذ الجهات المنتجة، ومدى الانخراط في طرح النسوية، أو الأقليات الجنسية، أو التوجّهات السياسية المهيمنة؟

 

قطعة معدنية؟

ينبغي القول، بداية، إنّ الجوائز تمثّل، نوعاً ما، شرّاً لا بُدّ منه، لأنّ الجانب المهني والصناعي من السينما (مهنيّو المهنة، بتعبير جان ـ لوك غودار) لم يجد بعد وسيلةً لجذب اهتمام التغطية الإعلامية إلى الأفلام أفضل من إقامة نظام منافسة، يحشد ترقّب المتابعين أشهراً قبل إعلان مختلف درجات الترشّح، ويُذكّي التشويق حول الفائز النهائي، ثم يستثمر الوقع والجدل اللذين يخلّفهما إعلان الفائزين، بين المسرورين والمستائين، لجذب المشاهدين إلى متابعة الأفلام المتوّجة، والخاسرة.

نظامٌ استُمِدّ من الرياضة ليُطبّق على السينما، مُنتِجاً ردود فعل من سينمائيين كبار، رفضوا إسقاط منطق التراتبية على فنّ يفترض تفرّد الأعمال، ما يجعل من أيّ مقارنة بينها، بُغية تفضيل أحدها على الآخر، شيئاً لا معنى له. الممثل جورج سي. سكوت، الذي رفض ترشيحه مرّتين لجائزة "أوسكار"، وصف هذه الأخيرة بـ"معرض للّحوم يمتدّ لساعتين، وعرض عمومي يستخدم تشويقاً مفتعلاً لدواع اقتصادية". أما غودار، فأجاب ـ بسخريته المعهودة ـ صحفياً سأله عمّا يعنيه له إعلان حصوله، عام 2010، على تمثال "أوسكار" شرفيّ، تكريماً لمساره: "لا شيء. إذا كانت الأكاديمية تحبّ منح التماثيل، فدعها تفعل. لكنّي أجد ذلك غريباً. أتساءل: أي من أفلامي شاهدوا؟ هل يعرفون جيّداً عملي؟"، قبل أنْ تُعلِّل رفيقته آن ماري ميلفيل إحجامه عن الردّ على المحاولات اليائسة للأكاديمية للاتصال به، ورفضه السفر إلى لوس أنجليس، بالقول: "لو كنتَ مكانه، هل ستقطع كلّ هذه المسافة من أجل قطعة معدنية؟".

إذا كانت الجوائز الأبرز في السينما، كـ"أوسكار" و"غولدن غلوب" الأميركيتين و"سيزار" الفرنسية و"بافتا" البريطانية، تستحوذ على اهتمام الإعلام، فإنّ العشرات غيرها تُمنح، كلّ عام، في بلدان مختلفة في العالم. كلّ منها يخضع لقانون خاص، يسعى إلى الاستجابة إلى خصوصية دولة أو تكتل جغرافي معيّن. يعرف المتابعون، إلى حدّ ما، جوائز أخرى، كـ"غويا" الإسبانية و"ماغريت" البلجيكية، وجوائز الفيلم الأوروبي؛ لكنّ قليلين يعلمون بوجود جوائز "الحصان الذهبي" التايوانية، أو يعرفون آخِر فائز بـ"غراندي أوتيلو"، الجائزة الكبرى للسينما البرازيلية، وجوائز "الأكاديمية الأفريقية للأفلام"، الممنوحة بـ"ييناغوا" النيجيرية في مايو/أيار من كلّ عام.

تحتلّ "الأوسكارات" صدارة الجوائز بالتغطية الإعلامية الهائلة، المخصّصة لها (وصل عدد متابعي حفل عام 2008 إلى 18 مليون متفرّج)، بصدىً يتجاوز الولايات المتحدة الأميركية ليعانق شرط الكونية، لأنّ مئات الصحف والمواقع العالمية تتداول أخبارها ونتائجها، وتغذّي خطب تسلّم تماثيلها، أو الأحداث المثيرة التي ترافقها (كالصفعة الشهيرة التي تلقّاها كريس روك من ويل سميث، عام 2022)، سيلاً من المقالات والنقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي، يمتدّ أسابيع. علاوة على أنّ الليلة نفسها تُنتِج كمّاً هائلاً من التفاعل والتعليقات حول فساتين الممثّلات، والعلاقات الغرامية بين النجوم، والمواقف الأيديولوجية، والحزازات السياسية، يجعل المتابع يتساءل عن مكانة السينما الحقّة في "كفرناحوم" الأضواء والأزياء ومواد التجميل، والإعلانات المباشرة وغير المباشرة، والبسط الحمراء، والتماثيل البرّاقة.

 

تأثيرٌ يصعب تجاوزه

رغم كلّ ذلك، يظلّ لـ"أوسكار" تأثيرٌ بليغٌ على حياة الفيلم الفائز، إذْ يفتح الفوز أمامه أبواب المُشاهدة العريضة في كلّ أنحاء العالم، ويؤثّر على صيت المخرج الذي يجد فرصاً أكبر لتمويل أفلامه الموالية، وعلى الممثل الذي يحصل على أجر أكبر. لكنّ عَكْسَها لحقيقة السينما يظلّ محدوداً، لأنّها تجنح كثيراً إلى تتويج نجومية الممثلين المشاركين في الفيلم، أو ثيمة مُثيرة للانتباه والجدل (السياسة، الأقليات الجنسية، إلخ)، أو قصة من الفئة المذرّة للعواطف، بدل مكافأة التجديد وأصالة الكتابة وإبداعية الإخراج، ومدى تجذّره في تربة السينما.

حقيقة السينما ونتائج "أوسكار" يلتقيان، بين الفينة والأخرى، كما حدث عام 2020، عندما فاز "طفيلي" لبونغ جون ـ هُو بـ"أوسكار" أفضل فيلم، في سابقة لفيلم غير ناطق بالإنكليزية، ما فتح باب الأمل في أنْ يغدو التمثال الذهبي أكثر انفتاحاً على السينما الكونية. توجّهٌ يُنتظر تأكيده أو نفيه في السنوات القليلة المقبلة، ابتداءً من المكانة التي سيحتلّها "تشريح سقوط" للفرنسية جوستين تريّيه (المتوّج بـ"السعفة الذهبية" لـ"كانّ" 2023، مثل "طفيلي")، في لائحة الجوائز النهائية لـ"أوسكار" 2024 (النسخة 96، 10 مارس/آذار 2024 بتوقيت غرب الولايات المتحدّة الأميركية)، بعد ترشيحه في 5 فئات رئيسية: أفضل فيلم (ماري ـ آنج لوتشاني ودفيد تيون)، وأفضل إخراج، وأفضل سيناريو أصلي (تريّيه وأرتور هاراري)، وأفضل ممثلة (ساندرا هولّر)، وأفضل مونتاج (لوران سِنِشال).

 

 

في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، لا يزال عدم اختيار "تشريح سقوط" لتمثيل فرنسا في "أوسكار" أفضل فيلم دولي يسيل مداد الجدل في الصحف الفرنسية، خاصة بعد إقصاء الفيلم المنتقى، "شغف دودان بوفان" لتران آن هانغ، من لائحة الترشيحات النهائية، إذْ أفردت "لو موند" تحقيقاً طويلاً لمحاولة "تشريح فشل" أودى بحظوظ فرنسا في الفوز بجائزة كانت في المتناول، نظراً إلى الترشيحات التي حصدها الفيلم في الفئات الأخرى. علماً أنّ آخر فوز لفرنسا في هذه الفئة يعود إلى 32 عاماً، مع "أندوشين" (1992) لريجيس فارنييه (النسخة 65، 29 مارس/آذار 1993).

من أبرز ما ورد في التحقيق أنّ الأعضاء الأربعة، الذين صوّتوا لفيلم آن هانغ، "رجّحوا كفّة الطابع الفرنسي المميّز لأجواء الفيلم، المنتمية إلى الرومانسية والأزياء العتيقة والمطبخ الفرنسي المتّسم بثالوث لحم ـ نبيذ ـ جبن". تفصيلٌ دالٌّ على نوع الاعتبارات غير السينمائية، التي تعصف أحياناً بحظوظ عمل متفرّد ودالّ، لمصلحة آخر لا يستحقّ الترشّح ـ الفوز. المحبط في الأمر أنّه لا ينطوي على أي زبونية أو سوء نية، بل اعتقادٌ ساذج وغير مسؤول، يحسب فعلاً أنّه يُحسن الصنع.

 

فضيحة

لحسن الحظ، أنّ جوائز "سيزار" تداركت الأمر، بترشيح "تشريح سقوط" في 12 فئة، فاز بـ6 منها، أبرزها في فئات أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل ممثلة (النسخة 49، 23 فبراير/شباط 2024). لكنّ ذلك لا يمنع انتقادات الفرنسيين لمستوى هذه التظاهرة (مقارنة مع ليلة "أوسكار" دائماً)، ووقعها الضعيف على مسار الأفلام الفرنسية في شبّاك التذاكر، ومستقبل مشاريع المخرجين، فلا يكاد ينفع في شيءٍ لتطوير السينما الفرنسية، في نظر أغلب المتابعين. أما "جوائز ماغريت"، التي تكافئ التميّز في السينما البلجيكية (النسخة 13، 9 مارس/آذار 2024)، فخلقت جدلاً واسعاً عام 2019، بمناسبة دورتها الـ9، حين أفصح الكوميدي المكلّف بالتقديم عن أنّ مقطعاً من "جانّ ديلمان" (1975)، للبلجيكية شانتال أكرمان، يظهر دلفين سيريغ منهمكة في تقشير البطاطس، سيتمّ عرضه على الشاشة، بمجرّد أنْ يتجاوز أحد المتوّجين الوقت المخصّص لخطابه. استخفافٌ غير مقبول بفيلمٍ عظيم، أحدث ثورة في السينما العالمية، تحت غطاء السخرية من اختيار تصوير الروتين اليومي لربّة منزل في الزمن الحقيقي، وبلقطات ثابتة.

هذا يوضح كيف تتمّ التضحية بأشياء من صلب السينما، من أجل اختيارات تسعى إلى البحث عن الفرجة والاستعراض، وعجز دفين لدى المشرفين على هذه المناسبات عن إيجاد المسافة الضرورية التي ينبغي أنْ تأخذها سخرية المقدّمين من حساسية الضيوف وحرمة السينما، حتى لا تنتج فظائع من هذا القبيل.

لكنّ الإشكالية الرئيسية التي تواجه الجوائز المُعتمِدة على تصويت الأكاديميات، مُشكّلة قاسماً مشتركاً بينها، تكمن في أنّ الأعضاء لا يتمكنّون من مشاهدة كلّ شيء (حوالي 1000 فيلمٍ سنوياً في الولايات المتحدة، و300 فيلمٍ وهوعدد متوسط في فرنسا، مثلاً)، فيجنحون إلى اختيارات القلب، أو الأفلام التي لاقت أكبر تغطية صحافية، أو حملة ترويجية واسعة. لذا، غالباً ما تحصل أفلام شركات الإنتاج والتوزيع، الغنيّة، على امتياز واضح، بغض النظر عن قيمة أعمالها.

لعلّ أجمل مُعبِّر عن روح الترفّع على الجوائز، وكلّ ما يرافقها من بهرجة، كلمة جان كوكتو، المرافقة لبرنامج "مهرجان الفيلم الملعون"، الذي أنشأه في مدينة "بيّاريتز" عام 1949، بالتعاون مع أندريه بازان، رَدَّ فعلٍ تمرّد على المهرجانات التابعة للمنظومة: "ليس هناك إنتاج سينمائي. إنّها خدعة، كما لا يوجد إنتاج أدبي أو تشكيلي أو موسيقي. لا توجد حصيلة سنوية جيدة للأفلام، كما نتحدث عن حصيلة سنوية للنبيذ الجيّد. الفيلم الجيّد مجرّد حادث، تعثّر للعقيدة المهيمنة. هذه بعض الأفلام التي تتجاهل كلّ القواعد، أفلامٌ مهرطقة، أفلامٌ ملعونة".

المساهمون