أغاني الحرب: أسطوانة تدور في رؤوس منكوبة (1/2)

23 سبتمبر 2021
استُخدم الأطفال لأداء أغان طائفية وتحرض على العنف (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -

قد يجهل السوريون اليوم عالماً خرج من بين بطونهم، أو ربما كرهوا البلاد حد النفور من الياسمين. بلد الأغنية الأولى في التاريخ، يجلس اليوم على حافة سلمٍ موسيقي محروق، يحاول لملمة ما تبقى من أغنياته التي أضاعها في حربٍ لا تشبهه وتكاد لا تشبه إلا الشيطان. إذ لم ينجح الفن في انتشاله ولم تنجح الموسيقى إلا بتفجير مشاعر شعبه حد الاختناق. وكاعتقاد يشيع في رأس المنكوب، الذي يحلم على الأقل بفن يولّده الألم، لم تكن الموسيقى في أغلب تسجيلاتها، إسفينا يفض النزاعات، بل أكملت طريقها حليفة صنّاعها، كيّفها المؤيد والمعارض لتناسب قماشة من الشعارات الملحّنة، تماماً كما روضها البشر سابقاً في حروبهم. وعلى اعتبار صوت الحرب فعل جماعي؛ كان لموسيقاه أن تحشد إن حشدت، أو أن تشعل روحاً إن بعثرت.
ومع التطوّر التكنولوجي، لم تقف العقبات في وجه الناشر، بل كان للتكنولوجيا الفضل الأكبر للوصول، بعد أن أمنت مساحةً حرةً للفرد متى أرادها. نشر المحتوى كان المهمة الأسهل، وللجميع حصة فيه إن نوى. وذلك إن استحقه أو تعسف فيه حد الهتك. ومن هنا، لم يكن هذا الامتياز بالأمر الإيجابي دائماً. ففي جولة بحث بسيطة عن ناتج موسيقى الحرب السورية التي نُشرت في السنين العشر الأخيرة، قد يجد الباحث نفسه في دوامة تسجيلات قد تكون بحد ذاتها التعريف الفعلي للكارثة والدموية بما تحمله الكلمتان من مضمون مرعب غابت عنه المنطقية، وارب العنف في طياته مرات، بينما صارح به مرات أكثر. فمثلاً، نُشر بعد اندلاع الثورة عدة تسجيلات معارضة من نمط الراب، نسبت هذه التسجيلات لفنان اعتمد اسم mc roco، أبرزها أغنيتان تحاربان طائفية النظام ومناطقيته، بخطاب مماثل ولكنه مضاد. أطلق على هذين الأغنيتين أسماء: "داعس ع القرداحة" و"قادمون يا قرداحة"، عبّر الفنان فيهما عن غضبه وسخطه من دموية النظام، فدافع عن الطائفة السنية بشراسة، واعتمد تهديد أفراد الطائفة العلوية. يذكر أن القرداحة هي الموطن الأساسي لبشار الأسد.
لم تكن هذه التسجيلات الوحيدة التي تطرح التساؤلات، فعند محاولة البحث عن أغنية عراقية قديمة تحمل اسم "أنا وياك"، تظهر نتائج سورية غزيرة، تكاد تخفي من فيضها هوية الأغنية الرومنسية الأصلية.
تتباين النسخ المسجلة بين فنانين معروفين في البلاد في موالاتهم للنظام وأشخاص مجهولي الهوية. نُشرت أشهر هذه النسخ بين عامي 2012 و2013 بكلمات موالية مختلفة. في إحدى النتائج التي قد تُعطى أثناء البحث عن هذه الأغنية، يظهر تسجيل لعناصر من الجيش السوري أثناء تأديتهم لخدمتهم العسكرية، يندب فيه المنشد في كلام منظوم، ظروف حياتهم العصيبة بأسى أقل ما يقال عنه أنه موجع، يختم تعاطف المشاهد بجمل مهلّلة لقائد الكتيبة ومؤكدة على التبعية والوفاء لقضيتهم وقائد الوطن السامي مهما طال العذاب!
ومع استمرار إصدار النسخ المتتالية لهذه الأغنية، وصلت النسخة الأسوأ على الإطلاق في عام 2013، والتي ظهرت بعد شهور قليلة من نشر تسجيل يبيّن طفلاً ضمن تجمع معارض في أحد شوارع مدينة بنش في محافظة إدلب، أنشد هذا الطفل واحداً من أناشيد تنظيم القاعدة التي تمجّد بن لادن. نشر هذا التسجيل المصوّر تحت عنوان "بالذبح جيناكم"، حرك فيه الطفل يده مهدداً بالذبح لأفراد الطائفتين العلوية والشيعية. ولما جاء الرد، كان مكافئاً! إذ تم نشر تسجيل يُظهر طفلاً آخر لا يتجاوز العاشرة من عمره، يجلس في تجمع موالٍ، ينشد نسخة جديدة من أغنية "أنا وياك"، ولكن هذه المرة بلهجة تهديدية مماثلة لطفل إدلب تردّ على خطابه. غنى الطفل ألفاظاً أشنع من أن يرددها البالغون، نظر إلى المصور بضحكة تحمل الشماتة، غنى مشجعاً لاغتصاب النساء، قتل الأطفال، وحرق القرى.
أنتج فريق "بدايات" في نفس السنة فيديو ساخراً حمل نفس عنوان أغنية طفل إدلب (بالذبح جيناكم)، نشرت هذه الأغنية ردّاً على الطفلين. أرفق الفريق مع التسجيل رسالة توضح "أن السخرية هي من الوسائل القليلة القادرة على مقاومة الكراهية، العنف، القتل، والطائفية. على أمل أن يستطيع الطفلان أن يعيشا ذات يوم بكرامة وحرية في سورية الجديدة، حيث لا طغاة ولا كراهية، بل إرادة العيش المشترك في بلد فيه من العدالة والحرية بقدر ما فيه من الفرح والسخرية".

وانطلاقا من السخرية، اشتهرت في بداية الثورة، أغنية ساخرة من النظام. جاء في نصها: "قاظان بيتكن فصل، لأنو مياهكن كلسيّة". تلاها في عام 2012، إصدار تسع تسجيلات لفرقة معارضة تحت اسم "الدب السوري"، حمل بعضها قدر من التهكم بخطاب سلمي لا يشوبه العنف. تم إنجاز هذه التسجيلات في الخفاء خوفاً من مساءلة النظام، ولم يفصح أي من المشاركين في هذه الفرقة عن هويته. نادت هذه الفرقة بسلميّة الانتفاض وخابت بعد تسليح الثورة.. فبقيت التسجيلات التسعة يتيمة. ولم يصدر بعدها أي جديد منهم. أشهر هذه التسجيلات أغنية "شارك في الإضراب" والتي دعت الشعب إلى إضراب سلمي. وأغنية أخرى سخرت من وعي الرئيس المغيّب عن المشهد، وبرّرته بالتعاطي. سُميت "سيمو". ختمت الفرقة النص التفصيلي أسفل هذا الأغنية بجملة فحواها: "السيمو هو دواء ضد السعلة (في سورية) يحتوي على المادة المخدرة "كودئين" والإكثار منه يسبب الإدمان".
وعلى الجانب الآخر، تنوعت الأغاني الموالية بين الوطنية المنادية بوحدة البلاد شعباً وأرضاً، إلى الأغاني المهللة للرئيس والمشجعة لسياسته وقوته العسكرية. انتهى المطاف أخيراً بمباركة الجميع لانتصاراته.

انتقى النظام بعض الفنانين الموالين له واعتمدهم في مسيرته المحاربة طيلة السنوات العشر، تم تبني هؤلاء الفنانين وبثت تسجيلاتهم في جميع استراحات إذاعاته الرسمية، خصص النظام لهم لقاءات وحتى ساعات ونس مسائية، تعزز مواقفه وتروج لها. ولم تقف البروباغاندا هنا، بل حرص النظام على التأكد من احتكارهم للمشهد الفني في البلاد عامةً ولم يرحب بنقيضهم! لينتهي فنانوه بكمّ من الناتج الدعائي يظن باحثون أنه بحاجة إلى فريق عمل كامل لإحصائه!
في عام 2021، عاد أحدث تسجيل لأغنية "أنا وياك" إلى الرومنسية، أكد على أهمية الكحول، وطرح الرقص من أجل الرقص من دون تطرقه لأي قضية أخرى! في نظرة تهكمية إلى مسيرة إصدارات أغنية "أنا وياك"، يمكن تلخيص عشر سنوات من حرب ظلت تتحول من شكل إلى آخر من دون أن تفنى.

في لقاء ترفيهي أجرته إحدى القنوات اللبنانية مع عدد من الفنانين، ضم الفنان الموالي علي الديك، وجُمِع معه عدد من الوجوه الأخرى المعروفة، تقدّم المذيع خلال الحلقة بسؤال للفنان علي عن رأيه بقضية هضبة الجولان المحتلّة تزامناً مع الاعتراف الأميركي بسيادة الكيان الصهيوني عليها في عام 2019. أجاب الفنان بأنه يسمع جعجعةً ولا يرى طحيناً، استأنف حديثه بأن الجولان محافظة من محافظات سورية، ولا يمكن للتاريخ أن يحيّد هذه الحقيقة. يذكر أن الجولان هضبة محتلة تتبع إدارياً لمحافظة القنيطرة السورية.

المساهمون