آثار غزة: تاريخ الفلسطينيين الحجري تحت القصف

08 نوفمبر 2023
ركام كنيسة القديس بروفيرويس (علي جاد الله / الأناضول)
+ الخط -

لم تقتصر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة على قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين بشكل يومي. العديد من المواقع الأثرية والتاريخية تعرّضت للقصف، كان أولها تل رفح، الذي استهدف منذ اليوم الأول للحرب، وتضرّر جزئياً.
تل رفح موقع أثري يعود إلى الفترتين اليونانية والرومانية، ويعرف محلياً باسم تل زعرب، نسبة إلى عائلة زعرب العريقة التي تقطن تلك المنطقة جنوب غرب مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة. يبتعد هذا الموقع عن البحر مسافة كيلومترين تقريباً، ويرتفع عن سطحه قرابة ثلاثين متراً، لكن الاحتلال الإسرائيلي جعله منخفضاً عن مستواه الطبيعي، عندما استخدمه موقعاً عسكرياً في عام 2000، وجرف الطبقات العليا منه.
تبلع مساحة تل رفح الأثري 160 دونماً، وتعاقبت عليه العديد من الحضارات، أقدمها اليونانية (330 عاماً قبل الميلاد)، حسب ما ظهر من خلال عمليات الحفر والتنقيب التي أجريت في بعض أجزاء هذا التل، على مدار سنوات، قبل الحرب.
كما قصف الاحتلال العديد من الكنائس التاريخية، ومنها كنيسة القديس برفيريوس يوم 19 أكتوبر/ تشرين الثاني، وهي أقدم كنيسة في غزة، ويعود بناؤها إلى عام 406 ميلادية، إذ تأثرت بتدمير كلي لمبنى مجلس وكلاء الكنيسة، مع أضرار جسيمة لقاعة الصلوات الرئيسية. سميت الكنيسة نسبة إلى القديس برفيريوس الذي دفن في الزاوية الشمالية الشرقية منها، هي التي بُنيت فوق معبد وثني خشبي يعود لحقبة سابقة. فيما تظهر السجلات من القرن الخامس عشر أن تكريس الكنيسة كان أيضًا بمثابة شهادة للسيدة العذراء. وتعتبر الكنيسة الأصلية، حسب العديد من المراجع، ثالث أقدم كنيسة في العالم.

ما تبقى من كنيسة القديس برفيريوس التي قصفها الاحتلال (علي جاد الله/ الأناضول)

واستهُدفت أيضاً في القصف الإسرائيلي العنيف والمتواصل على قطاع غزة كنيسة العائلة المقدسة للاتينيين، التي أقامها الأب جان موريتان في غزة عام 1869، فطاولها تدمير جزئي أدى إلى تشققات في الجدران والنوافذ، وهي الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في مدينة غزة، وتدير مدرستين ابتدائية وثانوية وبعض العيادات الطبيّة.
أما المستشفى الأهلي المعمداني، الذي يضم الكنيسة المعمدانية التي أسستها جمعية الكنيسة الإرسالية التابعة لكنيسة إنكلترا في عام 1882، وأعيد بناؤها عام 1950، فأثار قصفه ردود فعل عالمية غاضبة، بعد وصف ما حدث بالمجزرة، فكان مساء 17 أكتوبر/تشرين الثاني بمثابة شهادة وفاة للمئات، فيما أحدث القصف دماراً كبيراً في المباني الرئيسية والملحقة، سواء في الكنيسة أو في المستشفى.
كما دمّرت طائرات الاحتلال الإسرائيلية العديد من الآثار الإسلامية في قطاع غزة، من بينها مساجد، كالجامع العمري الكبير في غزة، وقد كان معبداً كنعانياً، وهو المسجد الأكبر والأقدم، ويقع في مدينة غزة القديمة، وأُطلق عليه هذا الاسم تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب.
وكان موقع المسجد الحالي معبداً كنعانياً قديماً، ثم حوَّله البيزنطيون إلى كنيسة في القرن الخامس ميلادي، وبعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، حوَّله المسلمون إلى مسجد.
في 19 أكتوبر/تشرين الأول، دمّر قصف الاحتلال، كلياً، الجامع العمري في جباليا، وهو مبني على الطراز المملوكي، ويرجح المؤرخون تأسيسه في عام 15 هجرية، فيما تشير التقارير إلى أنه لا يمكن ترميمه.
واستهدف القصف جامع الشيخ سليم أبو مسلم في بيت لاهيا وفيها مقامه (بني منذ 600 عام)، ودُمّر كليّاً، إلى جانب جامع الشيخ سعد ببيت لاهيا (بني منذ 500 عام)، ودُمّر جزئياً ويمكن ترميمه. وتعرّض جامع كاتب الولاية بغزة إلى تدمير جزئي في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

المستشفى الأهلي المعمداني غداء قصفه من قبل الاحتلال (علي جاد الله/ الأناضول)

وحسب تقرير صدر أخيراً عن اتحاد المؤرخين والآثاريين الفلسطينيين، أعدّه المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر، فإنّ العدوان الإسرائيلى طاول آثاراً إسلامية مدنية، مثل قصر الباشا، الذي أنشئ فى العصر المملوكي عام 1260.
ويقع القصر، حسب دراسات لمؤرخين أجانب، في البلدة القديمة في حي الدرج في مدينة غزة، ويُعدّ النموذج الوحيد للقصور المتبقّية فيها، وبني في زمن الظاهر بيبرس، ويُستَدلّ على ذلك بشعار الظاهر بيبرس الموجود على مدخله الرئيس، وهو عبارة عن أسدين متقابلين، وكان يعتبر مقراً لنائب المدينة في العصرين المملوكي والعثماني، وتحوّل إلى متحف يحوي العشرات من القطع الأثرية النادرة التي جرى اكتشافها خلال حفريات متعددة، وتعود إلى حقب زمنية بعضها موغل في القدم.
واستهدفت الطائرات الإسرائيلية بالقصف حمام السمرة، وهو حمّام عثماني أقيم في مبنى مملوكي تأسس قبل ثمانية قرون، ويقع في حي الزيتون بمدينة غزة.
كما طاول القصف دائرة الآثار والمخطوطات التابعة لوزارة الأوقاف، كما قُصف مسجد العباس وفيه مكتبة العباس التاريخية، وتضم لوحات حجرية وبعض المخطوطات التاريخية، وقد أحرقت بالكامل.
كما دمرت سلطات الاحتلال مواقع أثرية أخرى تضررت جزئياً وما زالت مهددة، ومنها مقبرة الإنكليز التي تعود إلى عام 1904، ومبنى بلدية غزة الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1893، ومواقع أخرى لا تزال مهددة.
ولفت معدّ التقرير المؤرخ حسام أبو النصر، ممثل فلسطين في اتحاد المؤرخين العرب، في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أن صعوبات عدّة واجهت إصدار هذا التقرير، الذي رصد ما جرى تدميره من مواقع ومبانٍ أثرية وتاريخية، منذ بدء العدوان في السابع من الشهر الماضي. يقول: "استند إعداد هذا التقرير الأول من نوعه في هذا المجال منذ بداية الحرب المتواصلة على قطاع غزة إلى الإحداثيات المتعلقة بالمواقع، التي توجد فيها هذه المواقع والمباني الأثرية والتاريخية في قطاع غزة، وتفاصيل تاريخها ومحتوياتها عبر استمارات معدّة سابقاً، وهذا ساعدنا كثيراً، خاصة مع القطع المتكرر للاتصالات الهاتفية والإنترنت في غزة. وفي حال توفر الاتصال، كنا نتواصل مع الجهات القائمة على المواقع المستهدفة فور ورود معلومات باستهدافها، أو سكان أو مهتمين ممن يسكنون في محيطها، فكنا نعرف طبيعة التدمير، إن كان كلياً أو جزئياً، وتفاصيل ما تعرض للتدمير. ما كان يرد في الأخبار كان يتناول عمليات القصف من دون الحديث عن تفاصيل ما حلّ بهذه المباني الأثرية والتاريخية".
ولفت أبو النصر إلى أن الجامع العمري الكبير وكنيسة القديس بروفيرويس هما الموقعان الأقدم في غزة، من بين المواقع التي استهدفها جيش الاحتلال، حتى الآن، بالقصف، مشيراً إلى أن من بين المخطوطات التي احترقت بالكامل في قصف دائرة الآثار والمخطوطات ومكتبة العباس ما يعود إلى خمسة قرون أو يزيد.

وشدد أبو النصر: "استهداف الشعب الفلسطيني في هذه الجرائم البشعة المتواصلة، يجب ألا يثنينا عن توثيق ورصد المواقع الأثرية والتاريخية ومحتوياتها، لكونها تشكل الامتداد الحضاري لتاريخ فلسطين منذ آلاف السنين، وهو جزء من التاريخ الإنساني للمنطقة".
بدوره، يلفت محمد الكحلاوي، رئيس المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب، إلى أن هذا التقرير يؤكد أن سلطات الاحتلال بهذه الجرائم ارتكبت مخالفة صريحة لاتفاقية لاهاي 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلّح، مطالباً المنظمات المعنية بالتراث، كمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، بالتدخل للاضطلاع بمسؤوليتها في حماية التراث الحضاري في فلسطين عامة، وفي قطاع غزة خاصة.

المساهمون