قوة مصر الناعمة والفرص الضائعة

27 ديسمبر 2023
الفريق القومي المصري ضد جيبوتي في منافسات فيفا (getty)
+ الخط -

انطلقت يوم الاثنين في العاصمة الإماراتية أبوظبي نسخة تاريخية من بطولة السوبر المصري لكرة القدم، تشارك فيها، ولأول مرة، أربعة أندية مصرية. وأعلنت اللجنة المنظمة عن جوائز البطولة، التي يصل مجموعها إلى 500 ألف دولار، تعادل نحو 25 مليون جنيه مصري، بخلاف ما يحصل عليه اتحاد الكرة المصري.

وتدفع الإمارات لاتحاد الكرة المصري مبلغ 10 ملايين دولار مقابل إقامة كأس السوبر المصري في أبوظبي لمدة 4 مواسم متتالية، أي بمعدل 2.5 مليون دولار في الموسم الواحد، وفقاً لما نشرته بعض المواقع على الإنترنت. وغالباً ستقام مباراة نهائي كأس مصر بين الأهلي والزمالك أيضاً في السعودية.

وبعد السيطرة على أصول مصرية بمليارات الدولارات، تحولت السعودية والإمارات للسيطرة على القوى الناعمة، ومجالات "الترفيه"، المصرية. وبخلاف كرة القدم، وقبلها بعقود، كان الاهتمام الخليجي بالفن المصري، بمختلف أنواعه. ومؤخراً تم تنظيم حفلات موسيقية ضمن فعاليات موسم الرياض، قيل إنها أقيمت احتفالاً بذكرى بعض كبار الملحنين المصريين، مثل رياض السنباطي وبليغ حمدي ومحمد الموجي وهاني شنودة.

شارك في تلك الحفلات مجموعة من أهم المطربين المصريين الحاليين، كما أقيمت حفلات أخرى، وكان أغلب المشاركين فيها من الفنانين المصريين، بمن فيهم نجما الغناء المصري على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، محمد منير وعمرو دياب.

المثير للدهشة أن هذه الحفلات، ورغم المبالغ الباهظة التي يتم دفعها للمشاركين من الفنانين المصريين، إلا أنها تنجح وتحقق أرباحاً ضخمة للمنظمين، مثلها مثل مباريات كرة القدم، التي جنت الدولتان من ورائها مبالغ طائلة، سواء من الإعلانات، في الاستادات والمسارح، أو في التلفزيون قبل وبعد المباراة أو الحفل، أو من حقوق البث، وهذا بالتأكيد بخلاف تذاكر الحضور.

يحدث ذلك في وقت تراجعت فيه الأنشطة الفنية الجماهيرية في مصر، ومنع الجمهور من حضور المباريات إلا قليلاً، وبقيت لوحات الإعلانات في الاستاد فارغة إلا من عبارة "الجمهورية الجديدة"، التي لا تدر دخلاً بالتأكيد، وإنما تحاول فقط حفر الفكرة الوهمية في ذاكرة المشاهدين.

قوة مصر الناعمة ليست للبيع

هذه التطورات، وبخلاف ما تبعثه من رسالة تأكيد على فشل القائمين على هذه الأمور في مصر، كونهم لا يستطيعون إدارتها والاستفادة من الأرباح التي يمكن أن تحققها، كما تفعل الإمارات والسعودية، إلا أنها تقول بوضوح أيضاً إن بعض مصادر القوة الناعمة لمصر تم شراؤها من دول ثرية ليس لبعضها أي إمكانات فنية أو أدبية أو ثقافية.

والقوة الناعمة للدولة هي قدرتها على التأثير في الآخرين، دون استخدام عناصر القوة التقليدية أو الإكراه. وتستند القوة الناعمة إلى عوامل عدة، منها الثقافة، والرياضة والفنون بأنواعها، ضمن أمور أخرى بالتأكيد.

وصاغ مصطلح القوة الناعمة في عام 1990 جوزيف ناي، وهو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، الذي اعتبر أن القوة الناعمة أصبحت أكثر أهمية من القوة الصلبة (القوة العسكرية أو الاقتصادية) في عالم اليوم.

مصادر قوة مصر الناعمة

وامتلكت مصر القوة الناعمة على مدار تاريخها، بالحضارة الفرعونية والقبطية والإسلامية، بالأهرامات وأبي الهول والمعابد والآثار الفرعونية، وبرحلة العائلة المقدسة في ربوع البلاد، وبالأزهر الشريف وإذاعة القرآن الكريم وأصوات الشيوخ المنشاوي وعبد الباسط والحصري، ثم في الفن والسينما على أيدي سيد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم، ويوسف وهبي والريحاني. وكان هناك عصر لا يكتب الفنان العربي شهادة نجاحه الحقيقية إلا في مصر، وبين جمهورها.

انبهر العالم، وخاصة في الشرق الأوسط والدول العربية، بكتابات العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، وبشعر صلاح جاهين وصلاح عبد الصبور ونجيب سرور وأمل دنقل. أبهرهم الجبرتي والشعراوي ومحمود مختار وهيكل، وفرحوا حتى بعادل إمام وهنيدي ومحمد سعد.

لكن ما نراه هذه الأيام ينذر بتراجع كبير في تأثير القوى الناعمة المصرية، حيث يعمل البعض على سحب كل عناصر هذه القوى، مرة بالاتفاق، ومرة بالإغراء بالمال، ومرة باستغلال الظروف الاقتصادية شديدة السوء التي تمر بها مصر. ومن عجائب الزمن الذي نعيشه أن المصريين أصبحوا يذهبون إلى بعض الدول العربية، للتعليم أو للعلاج، في تحرك عكسي لما كان يحدث حتى عقدين أو ثلاثة مضت.

يقول جمال حمدان في كتابه العظيم عن "شخصية مصر"، في وصفه لتعامل مصر مع أزماتها "المأساة الحقيقية في ذلك أن مصر لا تأخذ في وجه هذه الأزمات الحل الجذري الراديكالي قط، وإنما الحل الوسط المعتدل، أي المهدئات والمسكنات المؤقتة، والنتيجة أن الأزمة تتفاقم وتتراكم أكثر، ولكن مرة أخرى تهرب مصر من الحل الجذري إلى حل وسط جديد، وهكذا.

بعبارة أخرى، مأساة مصر في هذه النظرية هي الاعتدال، فلا تنهار قط، ولا هي تثور أبداً، ولا هي تموت أبداً، ولا هي تعيش تماماً، إنما هي في وجه الأزمات والضربات المتلاحقة تظل فقط تنحدر وتتدهور، تطفو وتتعثر، دون حسم أو مواجهة حاسمة تقطع الموت بالحياة، أو حتى الحياة بالموت، منزلقة أثناء هذا كله من القوة إلى الضعف، ومن الصحة إلى المرض، ومن الكيف إلى الكم، وأخيراً من القمّة إلى القاع.

غير أن النتيجة النهائية لهذا "الانحسار" المستمر المساوم أبداً، وصفقات التراجع إلى ما لا نهاية، هي أننا سنصل يوماً ما إلى نقطة الانكسار بعد الالتواء، وبدل المرونة سيحدث التصادم، ومحل المهدئات ستحل الجراحة، أي سنصل إلى نقطة اللاعودة إلى الحل الوسط، وعندئذ سيفرض الحل الجذري الراديكالي نفسه فرضاً، ولكن بعد أن يكون المستوي العام قد تدنى إلى الحضيض، والكيف قد تدهور إلى مجرد كم، والمجد إلى محض تاريخ، وذلك هو الثمن الفادح للاعتدال.

 

المساهمون