في الثمانينيات والتسعينيات، ظل يتردد على العاصمة الأردنية. ولم يكن يتصور (كما سمعت منه مرة) بأنها ستكون مكاناً لإقامته، إلّا أن الاحتلال الأميركي لبلاده، وتدهور الأوضاع الأمنية التي تبعها تدهور المشهد الثقافي والفني في العراق؛ دفعاه إلى مغادرة بغداد باتجاه عمّان. وها هو الفنان العراقي محمد مهر الدين يستقر فيها إلى الأبد، بعد أن رحل عنّا أول أمس عن 77 عاماً.
ومثل العديد من الفنانين العراقيين بعد اجتياح بغداد، انتقل مهر الدين إلى عمّان عام 2006 بعد أن أيقن أن "العراق لم يعد بلداً صالحاً للإبداع". واختار الإقامة في أحد الأحياء الشعبية (رغم ظروفه الجيدة نسبياً) "جبل القلعة" الذي يطل على وسط المدينة. كان يفضل أن يبقى قريباً من منطقة وسط البلد، ويردّد دائماً أن أجواءها وناسها تذكرانه ببغداد.
كان شديد الالتصاق بمنطقة وسط البلد، يدعوها بـ"عمّان الحقيقية" المختلفة عن تلك "المزيفة"؛ أي عمّان الغربية. يتوزع يومه بين "مقهى السنترال" و"مقهى الأوبرج" صباحاً، والعمل على لوحاته في مرسمه مساءً، دائم التواصل والحركة في المحيط الفني.
شكَّل وجوده بصحبة العديد من الفنانين العراقيين الذين جاؤوا إلى الأردن أثناء الحصار ثم الاحتلال؛ رافداً مهماً في تطوير الحركة التشكيلية الأردنية، إذ أثّروا فيها وساهموا في تنشيط وخلق ساحة عربية للفن التشكيلي؛ في مدينة لم تكن تحوي سوى بضع قاعات عرض في التسعينيات.
سألته مرة عن سبب اختياره البقاء في عمّان، عوضاً عن مدن أخرى قد تفتح له ذراعيها كبيروت أو دبي، أو أي من المدن الأوروبية التي كانت تشكل وجهة الفنانين والمثقفين العراقيين. كانت إجابته "الأردن هي الأقرب إلى العراق"، وأنه فقط بحاجة إلى حزم حقيبة صغيرة والذهاب إلى أقرب مكتب سفريات كي يكون بعد بضع ساعات في بغداد. ظل دائم التفكير في العودة، يتعامل مع إقامته في عمّان كوضع مؤقت، رافضاً فكرة امتلاك أي شيء قد يربطه بالمدينة.
ولد مهر الدين في مدينة البصرة عام 1938، وانتقل إلى بغداد في منتصف الخمسينيات للدراسة في "معهد الفنون الجميلة"، وبعد تخرجه منها، تابع دراسته في بولندا بـ"أكاديمية الفنون" في وارسو، ليعود بعدها كأستاذ في "معهد الفنون الجميلة" في بغداد ويقيم هناك أول معرض له عام 1965.
أسس عام 1969 "جماعة الرؤية الجديدة"، التي ضمت مجموعة من الفنانين العراقيين منهم رافع الناصري، وإسماعيل فتاح الترك، وصالح الجميعي، وضياء العزاوي. شكّلت الجماعة وقتها حركة فنية دعت إلى التجديد في التقنيات والأفكار والأشكال القائمة، وكان لها تأثير كبير على الحركة الفنية في العراق.
من أعمال معرضه الأخير "حرب قذرة" |
يعد مهر الدين واحداً من رواد الحداثة في التشكيلي العراقي، الذين نقلوا اللوحة العربية من المدارس التقليدية (التعبيرية والانطباعية تحديداً)، إلى اللوحة المعاصرة. وتتلمذت على يده مجموعة من الأسماء الفنية العربية البارزة منها الفنان العراقي جبر علوان.
"حرب قذرة" كان عنوان معرضه الأخير، الذي استضافته "غاليري الأورفلي" في عمّان العام الماضي. ضم المعرض مجموعة لوحات حملت نقلة صارخة في أعماله. فبينما كانت لوحاته السابقة تتضمن رموزاً وحروفاً لاتينية غير مفهومة، حملت لوحاته الأخيرة رسائل مباشرة وجملاً واضحة كتبها بالعربية هذه المرة؛ عبارات مثل "سرقة الآثار" و"ديمقراطية الأباتشي والدمار"، وأخرى من قبيل "الوحوش والكلاب دخلت العراق بعد 2003".
إلى جانب ذلك، ظلّ اسم بغداد حاضراً في معظم اللوحات؛ وكأنه أراد لتلك الأعمال أن تكون رسائله العراقية الأخيرة.