ندى يافي..مرافعة في قضية اللغة العربية

ندى يافي..مرافعة في قضية اللغة العربية

09 مايو 2023
ندى يافي
+ الخط -

رغم مُضيّ أكثر من ثمانية قرون على بدء دراسة اللغة العربية وتدريسها في فرنسا، أي قبل قرار فرانسوا الأوّل (1494 - 1547) بإدراجها في "معهده الملكي"، فإنّ هذه اللغة لا تزال تثير من الحماسة أشدَّها وتستقطب الاهتمام ضمن ثنائيّة ضدّية تتراوح بين الانبهار بها في الأوساط الجامعيّة، بصفتها لغة ثقافة عبّرت عن أرقى الآداب والعلوم وبها تألّقت وجوهٌ فكريّة بارزة، وبين محاولة تشويه سمعتها في السجالات المتواترة عبر وسائل الإعلام.

هذه المفارقة البنيويّة هي ما تميّز وضْع العربية اليوم ضمن خريطة الألسن في فرنسا، وهو ما تطلّب تفكيكها في العمق، في كتاب جديد موسوم "مرافعة من أجل اللغة العربية"، أصدرته السفيرة الفرنسية السابقة في الكويت ندى يافي، وفيه أعادت النظر في العوامل التي أدّت إلى تضخيم هذه المفارقة واجتراح موقف مُزدوج من هذه اللغة التي غالبًا ما تُقرن، في المخيال الجمعي الفرنسي، بالانطواء على الذات وبالتعصُّب الديني. في حين تعمل جهات أُخرى على فكّ ارتباطها بالحضارة الإسلامية على نحو جازم، وهو ما يشكّل مفارقة ثانية ذات طابع اجتماعي ومعرفي، تسعى يافي إلى مناقشتها أيضًا. وهكذا، فالمرافعة تسلك منهج "التفكيك"، بالمعنى الذي مارسه جاك دريدا؛ حيث عادت إلى تحليل جذور التمثّلات الشعبية التي صاغها هذا المخيال عن الضادّ وعن الناطقين بها.

يتأمّل الكتاب وضْع العربية في فرنسا وتاريخ حضورها فيها

ينتمي هذا الكتاب، كما يدلّ عليه عنوانه، إلى النوع الأدبي المسمّى بـ "التأمّلات" essais، بما هي تأمُّل في قضيّة ذهنية، يُصاغ بلغة نصف أدبيّة- نصف مُجرّدة، للغوص في خفاياها. ولعلّ يافي اقتبست هذا العنوان المُوحي من السجلّ القانوني، لتُصوّر وضع الضاد في "قفص الاتهام"، فهي تقترن أحيانًا، في هذا المخيال المنحدر من التراث الاستشراقي والاستعماري، بالعديد من المفاهيم السلبية؛ مثل التطرّف، وعُسر منظومة القواعد وصعوبة تعلّمها، فضلاً عن عدم مواكبتها الحياةَ المعاصرة بتصوّراتها الذهنية كما بأشيائها المادية، وغير ذلك من الأحكام المُسبَقة والأفكار الخاطئة التي اجتهدت ندى يافي، ليس فقط في تفنيدها، بل وفي بيان تفاهتها وتهافتها.


من اللغة إلى التاريخ السياسي

تنقسم هذه "المرافعة" إلى أحد عشر فصلاً متتاليةً، تدور جُلُّها حول وضع اللغة العربية في فرنسا وتاريخ حضورها، وهو قديمٌ يعود إلى التواصل مع العرب في العصر العبّاسي، مع التذكير بثنائيّة سجلاتها وآثارها في الاستخدام الرسمي والعفوي، وعلاقاتها بالسلطة والمقدَّس والهويّة، وكلُّ ذلك بأسلوب سلس، سعيًا إلى انتشار واسع لدى جمهور فرنسي من غير أهل الاختصاص.

الصورة
غلاف الكتاب

كما تهدف "المرافعة" إلى كسر الأفكار النمطية التي طالما أحاطت بهذا اللسان، وبذلك تتجاوز قطاع اللغة وتنفتح على مسائل التاريخ السياسي، ووضع الإسلام في فرنسا، ومناهج تدريس اللغات، وسجلّات الأدب، وأساليب الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من الأبعاد التي تتداخل مع الخطاب وتُوظّفه وقد تتلاعب به، مع أنّها ليست، في الأصل، ذات جوهر ألسني، ومن ذلك الفصلُ المُخصَّص لعودة قضية الجزائر وتاريخ حربها مؤخّرًا إلى نقاشات الشأن العام، وما جرّته هذه العودة من صور نمطيّة عن هذا البلد وأهله، ومن محاولة التعامُل مع هذا الغائب الحاضر، ولا سيما أنّ الجيل المتحدّر من أصل جزائري بات يشارك في المجتمع ويفرض صورة إيجابية له في الأعمال الأدبية والفنّية والسينمائية.

وقد أضافت يافي إلى هذه "التأمّلات" بعض النوادر والوقائع التي عاشتها أثناء ممارستها لعملها مُترجمةً رسمية لدى السلطات الفرنسية (رئاسة الجمهورية ووزارتَي الخارجية والدفاع...)، أو سفيرةً لفرنسا في الكويت، أو مُديرةً لـ "مركز اللغة والحضارة" في "معهد العالم العربي" بباريس؛ حيث مرّت بالعديد من التجارب الشخصية التي وظّفتها في التدليل على صواب وجهات نظرها.

ويجدر بالألسنيّين الأكاديميّين الذين يشتغلون على تحوّلات الضاد ألّا يُهملوا مثل هذه المعلومات الحيّة، المنبثقة من عمل ميدانيّ امتد طيلة عقود، لاحظَت يافي خلالها أنّ الضاد منخرطةٌ في الحركة، حركة التاريخ وصناعته، وأنّها لغة يصدق عليها وصف المدرسة التداولية بأنّها فاعلة في الواقع، مؤثّرة في تحوّلاته؛ فقد شهدت في مهامّها تلك كيف تُؤدّي مفرداتُ الضاد وتراكيبُها كلّ الوظائف العمليّة وقسّمتها إلى خمسٍ: الأدبية، والتواصليّة، والزخرفية، والموسيقيّة، والرمزية، مُحلّلةً آثار استخدامها في المجال الرسمي وغير الرسمي.


السلطة والهوية والمقدَّس

ولا عجب في أن تتصدّى ندى يافي لمعضلة الضاد والمقدّس ضمن هذه الازدواجية التي تحكم التعامل معها؛ حيث يرفض فريقٌ أوّل ربط العربية بالتعالي القرآني وغيره من النصوص الكلاسيكية، وينادي بفكّ ارتباطها كلّيًا بالدين الإسلامي، في حين يُصرّ الآخرون على تأكيد الارتباط البنيوي العضوي بين الضادّ والإسلام، بحيث لا يبقى مجالٌ للفصل بينهما، لا في التاريخ الممتدّ لأربعة عشر قرنًا، ولا في الاستخدام اليومي الذي يزخر بالعبارات الدينية من دون أن تكون لها معانٍ غيبية.

يتضمّن قضايا تتعلّق بالضادّ في البلدان العربية أيضاً

وقد أوضحت الباحثة، في فصل شيّق، هذا الانزياح الدلالي الذي عرفته العبارة الشهيرة "إن شاء الله"، فلم تعد مقترنةً بموقف إيماني، بل بطائفة من المعاني السياقية التي تتراوح بين الاحتمال والأمل والتشكيك واليقين، وكلُّها من أفعال الكلام وآثاره الإنجازية. وقد دفع هذا التعارض الباحثةَ إلى إجلاء هذا التشابك وبيان السياقات الثقافية التي وَلّدته أو ضخّمته، ولا سيما في الإطار الفرنسي؛ حيث تبدو العربية لغة أقليّة قليلة تُصارع من أجل التكلّم بها وتدريسها. 

واتّساءً بمن سبقها من المستعربين، صاغت ندى يافي تأمُّلاتها هذه بأسلوب فرنسيّ أنيق، كأنّما تستقيه من موارد الضادّ الشعريّة، وتومئ من طرفٍ خفيٍّ إلى أنّ مَن يدافع عن العربية ليس عاجزًا عن التأليف بلغة موليير، ولا عن نحت جُمل ذهبيّة من أنيق تراكيبها، في تزاوُج لطيف بين ذاكرة اللسانَيْن وطاقتَيهما التعبيرية.

ولذلك لا نحتاج إلى البرهنة على ضرورة ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، موضوعِهِ وأفقِهِ؛ فهو يتضمّن أهمّ القضايا التي تتعلّق بالضاد في البلدان العربية أيضًا، وهي قضايا تهمّ كلّ المثقّفين والمتعلّمين العرب، ولا بدّ من مواصلة النقاش حولها وتفكيك المفارقات التي تُحيط بها حتى نتوصّل إلى علاقة متوازنة وصحّية مع لغتنا، فلا يعود مجرّدُ النقاش عنها مثارًا للأهواء والحماسة المفرطة، وحتى لصخب الأيديولوجيات، ممّا يحجب التعامل الرصين مع هذه القضية المصيرية، وقد يدفع إلى اتخاذ قرارات خاطئة.

وهكذا، فهذه "المرافعة" مزيجٌ من الذاتية والوصف الموضوعي، وفيها تلتقي الذكريات بالتحاليل الأكاديمية، حاملةً نظرات مثقّفة عربية مقيمة بفرنسا، منخرطة في عمل دؤوب من أجل الدفاع عن شرعية تدريس الضادّ في هذا البلد واستخدامها في كلّ الدوائر، وهي واعيةٌ بتحدّيات هذا الدفاع وتداعياته المنهجيّة المعقدة، ثمّ بترجمته السياسية في محيط بات أكثر عدائية لكلّ ما يتّصل بالثقافة العربية، وبمخيال أوروبي لا يزال يعيش على أوهام الاستشراق وآثار الانفصام، حيث يلتقي الخوف والانبهار في آن معاً في ضمير المجتمع الفرنسي، وأحياناً لدى الشخص الواحد، وهو ما يُشرّع لهذه المرافعة ويجعل منها أكثر من ضرورة معرفية ملحّة.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون