رحيل ماريا روسا دي مادارياغا.. تأريخٌ مضاد لخطاب الاستعمار الإسباني في المغرب

13 يوليو 2022
المؤرّخة الإسبانية في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

كثيرة هي الأبحاث والدراسات التي تناولت جوانب العلاقات الإسبانية المغربية المتشابكة، وكثيرة تلك التي اختصّت في الشقّ التاريخي منها، وخصوصاً المُرتبطة بالحضور الاستعماري الإسباني في المنطقة التي أُطلق عليها تاريخياً "منطقة الحماية الإسبانية".

إذ من بين القضايا التي حظيت بعناية الباحثين المهتمّين بهذا الشأن باعتباره موضوعاً تاريخياً صرفاً، قضايا الإدارة الاستعمارية، والجانب الحقوقي، وقضايا الخدمات الاجتماعية، وقضايا تأهيل المنطقة اقتصادياً، والمسألة الدينية وقضية التعايُش، ثم دور معاهد الدراسات الأفريقية، ثم حضور "الموري" في المتخيّل الجمعي الإسباني، ودور المُترجمين والترجمة في بسط النفوذ الاستعماري في منطقة الحماية، وقضية المواجهات والحروب الاستعمارية بين إسبانيا والمغاربة، وخصوصاً ملحمة أنوال وقائدها محمد بن عبد الكريم الخطابي.

ورغم الكمّ الهائل من البحوث والدراسات التي تناولت هذه الحقبة التاريخية، من منطلق شامل يُقارع الحقائق بالحجج والبراهين والوثائق، فإنّ هذه المقاربات ظلّت ناقصةً لأنّها من جهة لا تغطّي مُختلف جوانب هذه الحقبة التاريخية، كما أنّ هناك مواضيعَ عديدة يتم تجنُّبها لكونها تُلقي بظلال معتمة على الدولة الاستعمارية، وخصوصاً قضية استعمال الغازات والأسلحة الكيميائية في حرب إسبانيا على عبد الكريم الخطابي.

ومن أهم الباحثين الذين ساهموا في إضاءة جزءٍ مهمّ من تاريخ منطقة الحماية الإسبانية في المغرب: ميغيل مارتن في كتابه "الاستعمار الإسباني بالمغرب 1860- 1956"، وفيكتور موراليس ليثكانو في العديد من مؤلفاته مثل: "تاريخ المغرب"، و"الاستعمار الإسباني الفرنسي للمغرب 1898 - 1927" ثمّ "نهاية الحماية الإسبانية الفرنسية بالمغرب" و"إسبانيا وشمال أفريقيا، منطقة الحماية بالمغرب 1912 - 1956". كما نجد الباحث سلاس لاراثابال في كتابه "منطقة حماية إسبانيا بالمغرب".

لم يتعامل البحث الأكاديمي الإسباني ولا الجامعة الإسبانية، يوماً، بإنصاف مع المغرب وتاريخه، بل لو أردنا أن نستحضر هنا أعلاماً من الاستشراق الإسباني، ببساطة يمكن أن نذكر أسماء كلٍّ من برنابي لوبيث، وفكتور موراليس ليثكانو، وسيرافين فانخول والقائمة طويلة.

تناولت أبحاثُها حرب الريف وشخصية عبد الكريم الخطابي 

إلّا أن المغاربة لا يمكن أن ينسوا موقف ماريا روسا دي مادارياغا، أثناء الخلاف الذي كان على مشارف الحرب في بداية الألفية حول جزيرة تورة حسب المؤرّخ المغربي محمد بن عزوز حكيم، أو جزيرة البقدنوس حسب الإسبان، فقد كتبتْ مقالاً مهماً نُشر بتاريخ 17 تموز/ يوليو 2002 في "صحيفة الباييس"، كان يمضي ضدّ التيار الشعبي الذي كان يؤجّجه الحزبُ الحاكم آنذاك، كاشفةً في المقال بعمق الأطماع القديمة للإسبان في ضم هذه الجزيرة/ الصخرة التي تقع على بعد 200 متر من الشواطئ المغربية، وبعيداً عن مدينة سبتة المحتلّة بثمانية كيلومترات، وكيف كان الإنكليز دائماً يقفون في وجه هذه الأطماع الإسبانية المتطلّعة لضمّ الجزيرة.

فقد استعرضت مادارياغا بإيجاز من خلال الوثائق تاريخ الجزيرة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وخَلُصت إلى أنّ إسبانيا لم تكن لديها يوماً أيّ سيادة عليها، وبالتالي فهي تعتبر جزءاً من "منطقة الحماية"، ومع نهاية "الحماية الإسبانية" صارت جزءاً من المناطق التابعة للمغرب المستقلّ. لكن رغم ذلك فكلّ مثقفي اليسار الإسباني سواء في الجامعة، أو خارج الجامعة، لم يستطيعوا أن يبلوروا موقفاً مضاداً للهيمنة الاستعمارية على مدينتي سبتة ومليلية، بل منهم من يدافع عن الموقف الاستعماري شأنهم في ذلك شأن الأفريقانيين في الجيش الإسباني، متحجّجين بالقانون الدولي، ومتناسين الوضعيّتين الجغرافية والتاريخية غير المبرَّرتين.

وبصدد مادارياغا يقول الباحث المغربي عبد الواحد أكمير: "إنّ كتب روسا دي مادارياغا يطبعُها قاسم مشترك، يتمثّل في تداخلها وتكامُلها، مع الإشارة إلى أنّ الأحداث التي كانت تقع في المغرب تنعكس بصورة مباشرة على السياسة الداخلية لإسبانيا". توفيت ماريا روسا دي مادارياغا في 29 حزيران/ يونيو الماضي، وكان لزاماً أن نتذكرها ونستحضر مواقفها، من خلال بحوثها المنشورة التي لطالما أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية، لأنها كانت تعتبر أقرب إلى إنصاف المغرب والإنسان المغربي، وخاصّة تلك البحوث التي تناولت حرب الريف، ومعركة أنوال، وشخصية عبد الكريم الخطابي.

لكنّ هذا لا يمنعنا من إثارة بعض القضايا التي تُعتبر مثيرةً للجدل بصدد هذه البحوث، فهي تعترف بأنّ الجيش الإسباني استعمل الغازات السامة "غاز الكلوروبكرين، وغاز الفوسجين، وغاز الخردل" ضد المقاتلين الريفيين، وضدّ المدنيين في منطقة الريف، إلّا أنها تعتبر أن قصف المنطقة بالغازات السامّة لا يجب ربطه بالارتفاع المهول لنسبة الإصابات بالسرطان في هذه المنطقة، وكأنّها بذلك تقفُ ضدّ ضرورة اعتراف إسبانيا بالأخطاء التي اقترفتها في الحرب ووجوب اعتذارها للشعب المغربي.

ما يقع في المغرب ينعكس على السياسة الداخلية لإسبانيا

ولعلّ الموقف الذي يكشف أيضاً هذه الجوانب المُلتبسة في شخصية ماريا روسا دي مادارياغا تصوّرها للمغاربة الذين جُنّدوا من قبل فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، وشاركوا بشكل ما في تقويض الجمهورية، إذ تعتبرهم مجرّد مرتزقة، والحال أنهم بحكم التبعية الاستعمارية للدولة الإسبانية كانوا جزءاً من المشهد العام الإسباني، وهنا أستحضر لقاءً مع الباحثة الإسبانية في طنجة حيث كانت مستاءةً جداً من افتتاح "متحف الماريشال أمزيان"، أحد قادة جيش فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، ثم ضمن الجيش المغربي، فمشاركة العديد من الفرق العسكرية التي تضم ذوي الأصول المغربية وغير المغربية ضمن الجيش الفرنسي في الحرب الهند - صينية، وفي الحرب العالمية الثانية بما فيه الإنزال بنورمانديا، كان يعتبر شيئاً عادياً بحكم تبعية المستعمرات رغم القتال دونما وجود قضية مقنعة تستحقّ أن يدافع عنها المرء.

إنّ ماريا روسا دي مادارياغا تُعتبر من أهم المتخصّصين في تاريخ المغرب الحديث، أغنتِ المكتبة ببحوثها، درست بـ"جامعة الكومبلوتينسي" بمدريد، ثم في فرنسا حيث درست بـ"جامعة السوربون"، وهيّأت أطروحتها للدكتوراه، وقد كان تأثير المؤرّخ الفرنسي بيير فيلار أساسياً في رسم مساراتها الدراسية والمهنية، مثلما كان حصولُها على دبلوم اللغة العربية من "معهد اللغات والحضارات الشرقية" في "جامعة باريس 3"، والدبلوم العالي في اللغة العربية وحضارتها من نفس المعهد، عاملين مساعدين لها في تطوير بحوثها.

وقد أصدرت العديد من البحوث، من بينها: "إسبانيا والريف: وقائع تاريخ شبه منسي" (1999)، "المغاربة الذين جنَّدهم فرانكو: تدخّل القوات الاستعمارية في الحرب" (2002)، "في خندق الذئب: حروب المغرب" (2005)، "عبد الكريم الخطابي: النضال من أجل الاستقلال "(2009) و"المغرب، هذا المجهول الكبير: تاريخ موجز لمنطقة الحماية الإسبانية" (2013). هذا وقد ترجمت الباحثة المغربية نزهة الغالي لمادارياغا كتابين إلى اللغة العربية هما: "في خندق الذئب" و"مغاربة في خدمة فرانكو".   


* شاعر ومترجم من المغرب

المساهمون