"بلوزة" زوكربيرغ وإبادة الآخر

19 مايو 2024
زوكربيرغ مرتدياً "بلوزة" كُتب عليها "قرطاج يجب أن تُدمَّر"
+ الخط -
اظهر الملخص
- مارك زوكربيرغ يثير الجدل بارتدائه قميصًا يحمل عبارة "قرطاج يجب أن تُدمَّر" في عيد ميلاده الأربعين، مستلهمًا من القائد الروماني كاتو الأكبر، مما أثار تساؤلات حول استخدام العبارات التاريخية في السياسة الحديثة.
- العبارة أثارت غضبًا ليس فقط بين سكان قرطاج الحاليين بل وبين العرب، مرتبطة بالسياسات القمعية ضد الفلسطينيين وحرب الإبادة في غزة، معكسةً دور منصات مثل "ميتا" في الصراعات.
- الحادثة تعكس المركزية الأوروبية-الغربية التي تتجاهل الحضارات الأخرى، مؤكدةً على أهمية النظر إلى التاريخ بمنظور أوسع يشمل جميع الحضارات والثقافات.

في "عيد ميلاده الأربعين"، ظهر مُؤسّس فيسبوك ورئيس شركة ميتا، مارك زوكربيرغ، مرتدياً "بلوزة" (TShirt) كُتب عليها: "carthago delenda est"؛ وهي عبارة لاتينية يمكن ترجمتها إلى "قرطاج يجب أن تُدمَّر". يَعرف من لديه فكرة عن التاريخ الروماني وأساسيات اللغة اللاتينية - مثل زوكربيرغ وغيره من خرّيجي الجامعات الأميركية - أنّ قائل العبارة هو القائد الروماني كاتو الأكبر، الذي اعتاد أن يختم بها خطاباته المحرِّضة في مجلس الشيوخ الروماني أثناء الحروب البونيقية مع الخصم اللدود لروما: قرطاج، وذلك في الزمن الذي اتَّسمت فيه سياسة قرطاج بالرغبة في السلام والاستقرار وتجنُّب الحروب مع روما، فكانت الأخيرة تبحث دائماً عن ذرائع للمبادرة بالهجوم وإنهاء هذا "الخطر"، وعُرف كاتو بتمثيله هذا التيار المحرّض على الحرب.

وفي زمننا إذ تخوض إمبراطوريات حديثة تستلهم تاريخها وأمجادها من الرومان حروباً تدميرية في أنحاء كثيرة من العالم، ويستخدم سياسيوها وإعلاميوها عبارات مقتبسة من كتب تاريخية ودينية للتحريض على مدن وشعوب وأمم، لدعوة العالم كلّه للمشاركة في مسحها من الوجود، كما كان كاتو الأكبر يدعو ويأمل، فليس من المستغرب أن تُثير هذه العبارة غضباً وتساؤلات من جهتين هما المستهدفتان لو فُهمت العبارة بشكل مُباشر: سكّان قرطاج الحالية، التي نجت وازدهرت قرورناً طوالاً بعد زوال كاتو وإمبراطوريته، والفلسطينيون الذين يُنادى إلى إفنائهم، ويتفنّن خطباء العالم الحديث بوجوب انكسار مقاومتهم.

أظهر كثير من التونسيّين امتعاضهم من هذه العبارة التي تستهدف مدينتهم، ورأوا فيها إعلاناً مبطّناً للحرب، بينما ربط كثير من العرب العبارة بحرب الإبادة في غزّة، ومع السياسات القمعية التي مارستها منصّات "ميتا" على المحتوى الفلسطيني أو المتضامن معه. يصعب على الإنسان أن يُسخِّف هذه الفرضيات ويتّهم أصحابها بأنّهم ذوو خيال واسع، وأن يشرح خلفيات العبارة والسياق الذي جاءت فيه، كما تنقل وكالات الأخبار التي تشرح الوقائع المعروفة، وهي أنّ زوكربيرغ يستأنس بهذه العبارة لوصف صراعه مع شركة غوغل حين أطلقت منصّة شبيهة بفيسبوك سنة 2016. وقتئذ أعلن فيسبوك وموظّفوه الحرب على غوغل وقرّروا أنّ أنسب طريقة للتعامل مع هذا التهديد لمكاسبهم وامتيازاتهم هي السياسة التي اتبعها كاتو الأكبر، وهي التدمير التام لقرطاج - غوغل.

هنا يصير الجنرال الروماني قدوة ومصدر إلهام في ساحة حرب من نوع آخر. ولكن هل يمنع هذا التفسير امتعاض الناس واستهجانهم للعبارة؟

برأيي، لا يُمكن فصل هذه العبارة عن الواقع السياسي للعالم اليوم، والدور الذي تلعبه "ميتا" وغيرها من شركات الإمبراطورية الحديثة، التي تُعلن الحرب التدميرية ضدّ كلّ منافس أو مُعارض يهدّد مصالحها وامتيازاتها. فالاقتباس من قائد عسكري قديم والتماهي مع روايته وتجاهل الطرف الآخر دليل على وجود عقلية مشتركة في التعامل مع الآخر والرغبة في تحطيمه تماماً.

تعكس العبارة وجهاً من أوجه المركزية الأوروبية- الغربية 

سؤال الآخر هنا وتجاهُل وجود قرطاج الحديثة اليوم، التي لها بدورها امتداد تاريخي، أبناؤه جزء فاعل من العالم الحديث (حتى لو لم يعرف زوكربيرغ أو لم يرد أن يعرف ذلك)، هي أيضاً مسألة إشكالية، إذ تدأب شخصيات غربية كثيرة على التماهي مع الحضارتين اليونانية والرومانية، باعتبار أنّ الحضارة الغربية اليوم هي امتداد طبيعي لهما، فتراهم مولعين بالعبارات اللاتينية، ويطلقون أسماء يونانية ولاتينية على منتجاتهم العصرية. هذه النظرة الأحادية لتاريخ العالم تؤدّي غرضاً آخر، يتمثّل في جعل كلّ ما هو خارج من هذا الامتداد الخطّي للتاريخ مغايراً، وبالتالي عدوّاً مُحتملاً أو فعلياً.

من الأمثلة الأُخرى، التي تُظهر هذا التماهي جلياً، هي عروض "إعادة التمثيل التاريخي"؛ وهي عروض تُقام غالباً في الولايات المتّحدة وبريطانيا، ويجتمع فيها عدد كبير من هواة التاريخ لإعادة تمثيل وقائع تاريخية مشهورة، تكون مثلاً مشاهد من الحرب الأهلية في أميركا أو معارك تاريخية للرومان أو اليونان. قرأتُ مرّةً عن صعوبة إعادة تمثيل وقائع معيّنة كالحروب اليونانية - الفارسية في بلد مثل الولايات المتّحدة، وذلك بسبب إحجام غالبية المشاركين بشكل قاطع عن أداء أدوار جنود أو قادة فرس، وتفضيلهم عوض ذلك أن يكونوا جزءاً من القوّات اليونانية، على اعتبار أنّ الفرس هم الأعداء واليونان هم الأخيار، رغم أنّ هذا يحصل في بلدٍ يفترض أنه خارج جغرافيا كلتا الحضارتين، وفي فترة زمنية يُفترض أن هذه الوقائع صارت جزءاً من التراث العالمي الجامع الذي يتدارسه الأكاديميون لاستخلاص دروس وأبحاث تُثري الواقع وتدفع الحضارة الإنسانية مجتمعةً إلى الأمام.

هذه الدعوة "الإنسانية" الجامعة كانت شعار "عصر الأنوار" الأوروبي. وبهذه الدعوة "انتقلت" آثار ومخطوطات كثيرة من العالم كلّه نحو أوروبا والغرب على اعتبار أنّها موروث إنساني جامع يخصُّ الجميع، لكن عند النظر بتمعُّن تظهر آثار المركزية الأوروبية التي ترى لنفسها امتداداً تاريخياً محدّداً يجعلها وريثة حضارة معيّنة، ويجعل ورثة الحضارات الأُخرى أعداء محتملين.

على ضوء هذا كلّه يصعب على الإنسان أن يسخِّف من آراء الذين استفزّتهم عبارة كاتو الأكبر على بلوزة زوكربيرغ، فهي وإن لم تكن تنطوي على مؤامرة، فإنّها تعكس وجهاً من أوجه المركزية الأوروبية- الغربية التي لا تعير اهتماماً للآخر، مهما كان شكل وجوده الحديث، ومهما كانت المآسي التي يعيشها اليوم.


* كاتب فلسطيني مُقيم في ألمانيا

المساهمون