"باب الطباشير": محاولة اختراع واقع آخر

"باب الطباشير": محاولة اختراع واقع آخر

21 ابريل 2024
طفلان عراقيان يُطلّان من أسفل باب منزل في بغداد، آب/ أغسطس 2005 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- "باب الطباشير" تعيد تخيل التاريخ العراقي المعاصر بأسلوب فنتازي، ممزوجة بالأحداث الكبرى من سقوط صدام حتى غزو داعش، وتقدم تاريخًا بديلًا يشمل انقلابات وتفشي البوذية.
- الرواية تبرز شخصيات مثل علي ناجي والدكتور واصف، اللذين ينتقلان عبر أطوار مختلفة من التاريخ العراقي، معيدة تشكيل مصائرهم بأسلوب يجمع بين الواقع والخيال.
- تستخدم الرواية الفنتازيا والسحر لبناء عالم خاص يتجاوز الحدود بين الواقع والخيال، مؤكدة على قوة الفنتازيا في إعادة تصور التاريخ والواقع، وتقدم ترجمة للوصايا السومرية.

"باب الطباشير"، الرواية الصادرة في طبعتها الرابعة عن "دار الجمل" للكاتب العراقي أحمد سعداوي، الحائز "الجائزة العالمية للرواية العربية" (بوكر العربية) عام 2014 عن روايته "فرانكشتاين في بغداد". الرواية، التي تحمل أيضاً في عنوانها "سبع تعاويذ سومرية للخلاص من العالم"، هي مثل سابقتها ذات أسلوب فنتازي.

لكن هذه ليست خالصة لهذا الأسلوب، فهو يتمّ في موازاة مع تاريخ العراق الحديث، منذ سقوط الرئيس الراحل صدّام حسين حتى زمن الرواية. مع ذلك، فإنّ تاريخ العراق الذي يحتفظ هنا بمراحله الأساسية من ديكتاتورية صدّام، إلى غزو "داعش"، إلى حكم المليشيات والحرب الأهلية، يتعرّض هنا لتدخُّل الفنتازيا. هناك لعبٌ بالتواريخ وبالأحداث، بحيث يمكننا القول إنّ الروائي يخترع تاريخاً كاملاً للعراق.

في رواية سعداوي لا ينتهي حُكم صدّام في الوقت الذي انتهى فيه، ولا يحافظ الروائي على مسار التاريخ الذي يتبع هذا السقوط. هنا نعثر على تاريخ آخر، نصادف في الرواية انقلاباً عسكرياً وتفشّياً للبوذية في العراق، وخروج أغلبية الشعب العراقي من بلدها إلى الخارج، ركيزته في ديترويت بالولايات المتّحدة، بينما تبقى الأغلبية تحت ديكتاتورية الشركات في العراق. الدولة الباقية تحت جناح الأكثرية المقيمة في أميركا.

كأنّ اللعب هنا، بل والتخييل، يصدران عن الواقع نفسه

نحن هكذا أمام تاريخ مصنوع ومخترَع، بل إنّ لعبة الفنتازيا لا تبقى عند حدود الوصايا السومرية، إنّها أيضاً لعب بالتاريخ نفسه. لكنّنا، مع هذا التغريب لا نزال نشعر أن للفنتازيا هنا طبعة التاريخ الحقيقي. كأنّ اللعب هنا، بل والتخييل، يصدران عن الواقع نفسه. الواقع يُخلّف هكذا ما يوازيه من الخيال، والخيال يسير بمحاذاة الواقع الفعلي. في الفنتازيا إيقاع الواقع وتخييله، بل قد يتراءى لنا أنّ التخييل هنا أكثر صدقاً وحقيقية من الواقع.

مع ذلك، فإنّ الرواية، التي تقارب 400 صفحة، تغلي بالأحداث والمصادفات والشخصيات. إنّها في ذلك تكاد تكون ملحمة قائمة بذاتها، ملحمة، لا تزال الأحداث والتفاصيل تدور فيها حلقة بعد حلقة. الحلقات هذه تكاد تُعيد نفسها، وإن بصور أُخرى. إنّها تُعيد نفسها لأنّ هكذا هو منطق الرواية، وهكذا هو مسار الوصايا السومرية.

نحن في مبتدأ الرواية أمام "جمعية المنتحرين"، هذه الجمعية ستبقى وصمتُها في الرواية على علي ناجي شخصية الرواية الأُولى. هو فيلسوف الحلقة ومؤسّسها، الفيلسوف هذا لا يزال ينتقل في أطوار التاريخ الحديث للعراق، منذ بدايته مذيعاً شتّاماً، إلى ترقيه مستشاراً للزعيم قائد الانقلاب، إلى عمله المتردّد في الحكومة الأقلّوية. هناك جنب علي ناجي الدكتور واصف، الذي هو، على نحو ما، نبيّ الرواية. إنّه فقيه سومري ومكتشف للوصايا السومرية، التي يؤلّفها سعداوي ولا يعود فيها إلى أيّ تاريخ محسوب. هناك أيضاً ليلى، الحبيبة الممتنعة لعلي ناجي، شخصيات لكلّ منها دورات حياة. إنّها، بحسب الوصايا السومرية، تعبر من باب إلى باب، من حياة إلى حياة. هكذا نعثر على كلّ منها وهو، في حيواته العديدة، وهو في كلّ منها جديد أو مستجد.

كلّ منها يمرّ بأكثر من موت وأكثر من حياة، ويبقى مع ذلك على حاله وسمته، وإن باختلاف. هذا الدوران بين الحيوات، هو أيضاً دوران بين عوالم الأبواب السبعة، التي ألّفها سعداوي وأوجد لكلّ منها نصّاً مبتكراً، ترجمته السومرية رغم كون النصّ عربياً، وضعها لسبب لا نعلمه عالم باللغة السومرية. هنا يُصرّ سعداوي على إيجاد واقع، لما هو، في أصله، أقرب إلى السحر، بل هو سحر خالص، سحر الكلام، ولكن أيضاً سحر الأبواب المرسومة بالطباشير.

هكذا تدور رواية أحمد سعداوي بين التغريب والواقع، بين السحر والتاريخ، بل هي، في آن معاً، هذا وذاك. إنّها في إصرارها على السحر، لدرجة ترجمة الوصايا المخترعة إلى لغة سومرية حقيقية، كأنّما تبني لنفسها واقعاً خاصّاً، كأنّما تخترع تاريخاً، هو أيضاً، وبالدرجة نفسها، تاريخ حقيقي، بل هو يبدو كأنّه يبني على الحقيقة حقيقته الخاصّة، يبني على التاريخ، ما يبدو لعباً مصنوعاً من مواد التاريخ، ومن عناصرها، كأنّما يُحوّل التاريخ، وبمواده الأُولى ومبانيه وسياقاته، إلى أسطورة، إلى سحر. تكون الفنتازيا عندئذ هذا اللعب بالتاريخ، تحويله إلى أدب، تحويله إلى إيقاع، وإلى تخييل وسحر.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون